أزمة الديموقراطية في الوعي السياسي الفلسطيني، فما العمل؟

بالعربي: ينشر مركز افق الحرية للبحوث والدراسات سلسلة من المقالات لمجموعة من الكتاب والنشطاء المؤثرين في صياغة الرأي العام ، وتأتي هذه المقالات ضمن سلسلة من الأبحاث الهادفة الي تعميق الفهم القانوني والسياسي وراء الدعوة لاجراء الانتخابات العامه ، وتستعرض هذه المقالات أهم الاسباب التي تدفع الى إجراء هذه الانتخابات.

الديموقراطية في ملامحها الإنسانية تختلف من مجتمع لأخر، تبعاً للظروف والتحديات التي عاشها هذا المجتمع أو ذاك، وكذلك طبيعة تركيبة المجتمع والعوامل التي أثرت في تكوين وعيه الثقافي والسياسي، فالديموقراطية في جوهرها وغايتها إنسانية الوجهة والهدف في كل ما يتعلق بالمواطن، إنسانيته، حقوقه، حريته، استقراره وازدهار حياته.

وأياً كان لون الديموقراطية التي يمارسها مجتمع ما، وإن اختلفت صورها وتفاصيلها فإنها تعبر عن رفض الإنسان للاستبداد والاستعباد والطغيان، وتمسكه بإنسانيته وحقه في الاختيار والمشاركة المجتمعية الفاعلة والقرار والتعبير عن ذاته واحترامها والتأكيد على حقه في ممارسة دوره في بناء المجتمع والإسهام في صياغة الحياة التي ينشدها والتخطيط لمستقبله ومستقبل أبناءه وأحفاده، انسجاماً مع تطور الوعي الإنساني ومفاهيم الحرية والتمدن.

لقد أسهمت الظروف التي مر بها الشعب الفلسطيني في بناء ثقافته الديموقراطية، وإن كان قد رزح تحت نير احتلالات وأنظمة حكم متعاقبة ولا يزال، بما حملت من ظروف الاضطهاد والاستبداد وسلب الحرية ومصادرة الأرض والوطن والحلم، ففي ذات الوقت فإن مجمل هذه الظروف أسهمت في خلق شخصيته التواقة للتصدي لقضاياه الوطنية والإنسانية على المستوى النضالي والتحرري والسياسي والنقابي والاجتماعي في سياق متميز شكل شخصيته الواعية المتميزة وجعله جديراً بالديموقراطية ومظاهرها أسوة بباقي شعوب الأرض التي توفرت لهم الأسبقية في ممارستها.

لقد تجسدت باكورة الديموقراطية الفلسطينية في سلسلة التحديات والمعانيات المريرة التي قاساها، والممارسات الطويلة التي عايشها الشعب الفلسطيني عبر مئة عام مضت من خلال العمل السياسي والنقابي والوطني حتى في ظل الاحتلال الذي حاول مرراً فرض نهج الاستبداد والاستعباد والاضطهاد بحق الشعب الفلسطيني، إلا أنه فشل في ذلك مراراً وتكراراً، فكانت انتخابات البلديات في السبعينات انعكاساً للوعي الديموقراطي للشعب الفلسطيني، وانتخابات مجالس الطلبة في الجامعات والكليات الفلسطينية، وكذلك الانتخابات النقابية التي دللت على إصرار الشعب الفلسطيني على نيل كافة حقوق الإنسانية والوطنية والمدنية، والتي مهدت لولادتها الطبيعة المكتملة انتخابات العام 1996م بعد اتفاقيات أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية بانتخاب أول مجلس تشريعي شكل بارقة أمل لتكريس الديموقراطية بمفهومها السياسي والمدني، والتي رسخت أسسها انتخابات الدورة الثانية للمجلس التشريعي ولرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 2006م حيث شكلت هذه المرحلة تعبيراً عن حالة النضوج المتقدمة للوعي الديموقراطي في الفكر النضالي الفلسطيني، وإن أعقبه بفترة وجيزة انتكاسة الانقسام الفلسطيني التي قوضت ثمرة الديموقراطية الفلسطينية أمام حالة الصدام الحتمي في المناهج السياسية المختلفة للتركيبة السياسية على الساحة الفلسطينية.

إن إرهاصات التجربة الديموقراطية الفلسطينية بتجلياتها وإخفاقاتها تندرج في إطار المسيرة الإنسانية الطبيعية في معركة الديموقراطية، ولا تشكل حالة منفردة بين شعوب العالم، فالمجتمعات التي تحظى بواقع ديموقراطي لائق قد خاضت مخاضاً عسيراً وقدمت أثماناً باهظة قبل أن تكرس حياة ديموقراطية لائقة تنسجم مع كينونة الإنسان وفطرته الطبيعية التواقة للحرية والاحترام وجدارته بحقوقه الأصيلة التي توفر له حياة كريمة رغيدة، مما يتطلب منا كشعب فلسطيني أن نتعامل مع واقع ديموقراطيتنا المتعثر بموضوعية وعقلانية بعيداً عن التشائم أو التفاؤل المفرط.

لقد شكلت مخرجات أزمة الديموقراطية الفلسطينية بعد الانقسام الفلسطيني والتعقيدات والعقبات التي اعترضت كل محاولات اعادة الاعتبار للديموقراطية الفلسطينية جدلاً محتدماً حتى هذه اللحظة يتمحور فحواه في التساؤول الذي يراود كل فلسطيني، فيما إذا كانت التجربة الديموقراطية الفلسطينية وازمتها نتاج عوامل موضوعية تتعلق في مخرجات العملية السياسية واتفاقات أوسلو أم أنها نتاج طبيعي لانقسام فكري فلسطيني عبرعن نفسه من خلال صراع القطبين الكبيرين على الساحة الفلسطينية المتمثلين في حركتي فتح وحماس ولا يزال هذا التساؤول قائما دون تحديد أو تشخيص للأسباب الحقيقية التي تقف وراء أزمة الديموقراطية الفلسطينية، وما نتج عنها من معطيات يجب ألا تغيب عن الأذهان تتمثل بالملاحظات التالية:

1. لقد بات من الواضح ان الخروج من أزمة الديموقراطية الفلسطينية لا يمكن أن يتم بالانتقال الميكانيكي لاستئناف الحياة الديموقراطية بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية دون تذويب الترسبات الناجمة عن تجربة الانقسام المريرة وما تبعها من تكريس مظاهر فكر الدولة العميقة في شرطي الوطن المنقسم.
2. عطفاً على الملاحظة السابقة فإن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى حوار جدي وحثيث للخروج بمفاهيم ومضامين فاعلة تشكل رافعة حقيقية قادرة عن تجاوز الترسبات التي خلفها الانقسام وأهمها تغليب الذاتية الحزبية أو التنظيمية على المصلحة الوطنية.

3. إن الخروج من الأزمة الحالية لتعطيل الديموقراطية الفلسطينية يتطلب التحضير الجدي لانتخابات تشريعية يتبعها انتخابات رئاسية تكون أحد أهم مخرجاتها إنهاء حالة الانقسام وإعادة توحيد الوطن على أرضية تغليب المصلحة العامة وتصليب الجبهة الداخلية الفلسطينية في مواجهة التحديات المصيرية للشعب الفلسطيني سواء على صعيد القضية الوطنية الفلسطينية أو المسائل الداخلية للمجتمع الفلسطيني.

4. ليس خافياً على أحد أن الحالة الفلسطينية الحالية تعاني من غياب سيادة القانون ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث وغياب الرقابة السياسية والمالية، ويعزى ذلك كله إلى غياب المؤسسة التشريعية الذي أفرز واقعاً من التخبط القانوني والمساس بهيبة القضاء واستقلاليته مما شكل خطراً داهما يهدد السلم الأهلي الفلسطيني وتهديداً حقيقياً للأولويات الفلسطينية في ظل تنامي عوامل  الانشغال في قضايا ثانوية داخلية يجب أن لا تسمو على القضية الوطنية العامة، والتي يمكن تذويبها من خلال تكريس الحالة الديموقراطية وإعادة الشرعية للمؤسسات الفلسطينية الرسمية.

لكل ما سبق فأنه بات من الضروري تصويب الواقع الفلسطيني، ووقف حالة الانفلات السياسي والقانوني والاجتماعي من خلال حوار فلسطيني ديموقراطي شامل يتسم بالجدية والموضوعية وتغليب الصالح الوطني تكون أولى مخرجاته التوجه لانتخابات ديموقراطية حرة ومباشرة يعبر فيها الشعب الفلسطيني عن إرادته وخياراته، ويسهم في إعادة ترميم واقعه والتخلص من ترسبات العقدين الأخيرين الذين  أضرا ضرراً بالغا بالأولويات الفلسطينية، ومس بالمحرمات والخطوط الحمراء التي شكلت دوما السياج الحامي لوحدة الشعب وإجماعه على أولوياته في التحرر والخلاص من الاحتلال وبناء مجتمعه الوطني الديموقراطي تمهيدا لإقامة دولة المستقلة الديموقراطية.

أن تفاقم الأزمات التي بات تعصف بالمجتمع الفلسطيني على الصعيد الداخلي، والأزمة السياسية المتمثلة بانسداد الأفق السياسي في تحقيق حلم الدولة الفلسطيني يفرض وعلى وجه السرعة التوجه لانتخابات تشريعية يتوخى منها تحقيق الأهداف التالية:

1. إضفاء الشرعية على المؤسسات الرسمية الفلسطينية والنظام السياسي بما يتضمن إنهاء حالة الانقسام وإعادة توحيد الوطن كشرط أولي لتكريس الشرعيات.

2. تفعيل مبدا الفصل بين السلطات الثلاث من خلال إعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني على أساس سلطات ثلاث تستقل كل واحدة عن الأخرى استقلالاً مرنا يحقق مبدأ الرقابة والتعاون المتبادل فيما بينها.

3. إعمال مبدأ الرقابة بكافة أشكالها بما يعيد الهيبة والثقة بمؤسسات السلطة على المستوى الوطني والدولي، وهذا يتحقق من خلال إجراء الانتخابات للوصول إلى مجلس تشريعي يعبرعن إرادة الشعب الفلسطيني في مناطق الدولة الفلسطينية المأمولة، يتبعها انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني للوصول إلى شرعية تمثيلية شاملة لكل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.

4. إعادة بناء جسور الثقة بين القيادة الناتجة عن هذه الانتخابات والشعب الفلسطيني التي تضررت جراء الانقسام وغياب المؤسسة التشريعية.

5. إعادة الهيبة والاستقلالية للقضاء الفلسطيني والذي عصفت رياح الانقسام وغياب مبدأ الفصل بين السلطات.

6. تعزيز مبدا سيادة القانون واحترام الحريات العامة استناداً لنصوص القانون الأساسي الفلسطيني.

7. جسر الهوة بين ومد جسور التناغم والمؤسسات الرسمية والحاكمة بالحد الأدنى المطلوب لإرساء قواعد الاتفاق والاختلاف في الإطار الذي يصب في المصالح الوطنية والمجتمعية العليا والنأي بالمجتمع الفلسطيني عن الولوج في حالة من العدمية والعبثية التي سادت خلال العقدين الأخيرين.

إن تحقيق الأهداف أعلاه باتت ضرورة وطنية ملحة، لا تحتمل التأخير أو التعنت أو التشبث باعتبارات حزبية أو مصلحية، ولا يمكن تحقيقها إلا من خلال الإسراع بإجراء انتخابات تشريعية كخطوة أولى يتبعها العديد من الخطوات العملية المسؤولة والصادقة للخروج من حالة الدوران في دائرة التخبط والعشوائية واللاشرعية، مع الأخذ بعين الاعتبار إن إرساء ديموقراطية حقيقية في المجتمع الفلسطيني هي عملية مجتمعية مستدامة قد يعترضها عقبات أو إخفاقات نتاج التنوع الفكري والسياسي الفلسطيني يمكن تذليلها والحد منها بإطلاق حملة توعوية ديموقراطية من خلال مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية والإنسانية والجامعات والمؤسسات الرسمية على حد سواء.