أرض فلسطين بين الاستعمار والاستيطان..بيع أم نزع ملكية؟

بالعربي_;كتب إسلام أبو العز: لا توجد مناسبة أفضل من يوم “الأرض” الفلسطيني للرد على افتراءات تاريخية وجدت صدى حتى لدى كثير من العرب، على رأس هذه الافتراءات كذبة بيع الفلسطينيين أراضيهم للمستوطنين  اليهود الأوائل، وبالتالي يصبح القبول بادعاءات الصهاينة في ارض فلسطين أوقع وأكثر تقبلاً، وينحصر الصراع في خلاف بين البائع والمشتري.

على أن مسألة بيع الأراضي الفلسطينية لا ترجع إلى عام 1976، حيث كان “يوم الأرض” الأول، ولكن إلى قبل ذلك بنحو ستون عام، فيعتبر يوم الأرض عام 1976 حلقه من حلقات مسلسل اغتصاب الارض الفلسطينية، التي بدأت منذ الاحتلال العثماني، مروراً بالاحتلال البريطاني ثم الإحلال والاستيطان الصهيوني.

الدراسة التالية هي محاولة لفهم كيف تم الاستيلاء على أراضي فلسطين منذ بدء الهجرة اليهودية إليها، وكيف تواطأ الاستعمار وسلم أراضي فلسطين إلى الصهاينة، وتفند مسألة بيع الأراضي في هذه الفترة الممتدة منذ 1918 وحتى عشية ثورة 1936، والتي كان أحد أسبابها مسألة نزع ملكية الأراضي وإعطائها للمهاجرين اليهود، وبالتالي يجب التطرق إلى الهجرات اليهودية إلى فلسطين وأثرها على عملية نزع وتوزيع ملكية الأراضي من جانب الاستعمار لصالح المشروع الصهيوني.

هنا لا يمكن التطرق إلى اساسيات ملكية الأراضي في فلسطين إبان هذه الفترة إلا عن طريق التطرق التكوين الطبقي في فلسطين حنى عام 1918:

طبقة كبار الملاك:

حصلت هذه الطبقة على أملاكها نتيجة نظام الالتزام الإقطاعي، الذي كان من مساوئه  أن يسجل الفلاح الصغير الأرض التي كان يملكها بأسم الإقطاعي تجنباً للضرائب، بالإضافة للأرض التي حصل عليها الإقطاعي من السلطات العثمانية نظير خدمته، وقد سعت هذه الطبقة في الفترة المتأخرة من عهد الاحتلال العثماني إلى اكتساب نفوذ سياسي، حتى أن التعامل مع الدوله العثمانية في هذه الفترة، كان تعامل في إطار التبادل النفعي، استحوذت هذه الطبقة على الوظائف الدينية والدنيوية، بالإضافة لإلحاق أبنائهم بالجيش العثماني.

الطبقة المتوسطة:

وتألفت من كبار التجار، أي البرجوازية التجارية، وسكان المدن وخصوصاً الساحلية، التي نَمت بسبب أنشطة التصدير والاستيراد، هذا بالإضافة لطوائف الحرفيين وصغار التجار والمتعلمين .

طبقة الفلاحين والعمال:

ساد الفقر والحاجة معظم الفلاحين الفلسطينيين، الذين كانوا يبلغوا حوالي 70% من عدد السكان، حيث كثرة الضرائب واستحواذ الاحتلال العثماني على المحاصيل والدواب، مما جعلهم في النهاية شبة معدمين، أما عن طبقة العمال  فكان الإنتاج الصناعي  في غاية التخلف والضعف حتى العام 1918، وهذا يفسر ضعف هذه الطبقة عموما في تلك الفترة.

منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين في 1922 عانى الشعب الفلسطيني من ظروف اقتصادية غاية في الصعوبة حيث تفرد كبار الملاك بالثروة، إضافة لاستغلال الاحتلال البريطاني للموارد الاقتصادية وفرض البنوك الانجليزية  فوائد كبيرة علي قروض الفلاحين، إضافة إلى غلاء البذور ومستلزمات الزراعة، ومنافسة الصهاينة للعمال الفلسطينيين وتعرض الفلسطينيين منهم، للطرد تحت شعار”العمل العبري” فتقلصت فرص العمل، مع قدوم الهجرات اليهودية، مع مواجهة الرأسمالية الفلسطينية الناشئة لصعوبات كبيرة أمام الصناعات اليهودية المدعومة برأس مال ضخم وتقنية متطورة وحماية جمركية ودعم أوربي، وبالنسبة لشريحة الموظفين، فقد فضل الاحتلال، اليهود عن الفلسطينيين وتحيز لهم، مما حرمهم من الوظائف، في الدوائر الحكومية.

وعلى الرغم من فقر الأراضي الفلسطينية من ناحية الموارد الاقتصادية، بخلاف ما كانت تفضله السياسة الاستعمارية البريطانية، فأن الموقع الجغرافي لفلسطين كان ذو أهمية إستراتيجية بالغة للانتداب، حيث يوجد أنابيب النفط العراقية، وجزء هام من طرق المواصلات الجوية التي تربط الهند ببقية المستعمرات في الشرق الأوسط، ولم تختلف أنماط الإدارة الاستعمارية البريطانية في ففلسطين عن مثيلاتها من المستعمرات البريطانية حول العالم، حيث  يولي المستعمر الأمن والإدارة الجانب الأكبر من المصروفات في حين يتم إهمال التعليم والصحة وغيرها من المجالات الضرورية، إضافة إلى عدم الاهتمام بتنمية الاقتصاد الفلسطيني، اللهم ألا ما نفع المستعمر فقط، فنرى أن الاستعمار تجاهل عن عمد أنشاء بنك مركزي فلسطيني وربط العملة الفلسطينية بقيمة الجنية الإسترليني وتوجيه النفقات، التي هي من موارد الشعب الفلسطيني، لحماية وأمن المستوطن الصهيوني، لإبقاء طرف أقوى من طرف وتوفير مقومات اقتصادية  تسمح بإقامة ركيزة قوية لاقتصاد المستوطنات الصهيونية.

وتكشف الوثائق البريطانية، وما فيها من تقارير عن كثير من الحقائق المستنبطة من الأرقام التي توضح حجم المعاناة  التي عانها المواطن الفلسطيني من الناحية الاقتصادية، ففي أعقاب هبَّة البراق عام 1929 وما تلاها من أحداث ثورية أوفدت السلطات البريطانية، لجنتين، واحدة سميت بلجنة “شو “وهي لتقصي الحقائق، ولجنة برئاسة السير “هوب سامبسون” لوضع دراسة حية عن أحوال فلسطين الاقتصادية والاجتماعية  ونتج عنهما تقارير، وضعت أمام صناع القرار البريطاني، وقد ذكر فيها أن أولى مخاوف الفلسطينيين هي الهجرة اليهودي، والتي وصفت من قبل اللجنة بأنها هجرة مفرطة، فيما بين العامين 1925-1929، وأيضا ما نتج عن تلك الهجرات، من تضيق الحياة المعيشية للفلسطينيين من أول فرص العمل وبيع الأراضي التي كان الفلاحون الفلسطينيون يعيشون منها بحق الانتفاع سواء من الإقطاعيين الكبار أو أراضيهم المملوكة لهم والتي تم الحجز عليها بسبب فوائد القروض الانجليزية الباهظة، وبيعها بعد ذلك من جانب البنك إلى المهاجرين  اليهود، وكان ذلك يؤدي ـ حسب تعبير لجنة شو ـ إلى “خلق طبقة لا تملك شيئاً وتشعر بالاستياء” كذلك أوردت اللجنة مخاوف العرب من تحقيق الأهداف السياسية للصهاينة، وما يتبعها من تجريدهم لأراضيهم، وجد أورد السير “سامبسون” أن العامل والفلاح الفلسطيني يعانون من، بطالة شديدة ومن تدني الأجور بنسبة 50% عن نظرائهم من اليهود، وقد نفذ “سامبسون” مسحاً، لعدد من القرى  بلغ 104 قرية، فوجد أن نصيب الفلاح الفلسطيني الواحد، من الأرض يبلغ بحد أقصى 75 دونم ـ الدونم يعادل ربع الفدان ـ وذلك نتيجة للنمو السكاني وطبيعية الارض، وأتباع الوسائل البدائية في الزراعة، بينما قدر “سامبسون” المساحة التي تكفي الفلاح الفلسطيني ب130دونم كحد أدنى، ووجد أيضاً، أن 20% من الفلاحين هم مستأجرين للأرض، ونتيجة للهجرة اليهودية وبيع الأراضي، أصبحوا مشردين بلا أرض، وان وجدت لدية الأرض فيظل مثقلاً بالديون والضرائب الكبيرة وسعر الفائدة الباهظ، وقد طالب سامبسون، في تقريره بوضع قيود على الهجرة اليهودية ونقل الأراضي لليهود، وعدم سجن المدين الفلسطيني، وإعفاء الفلاح الذي يقل دخله عن 30جنيهاً من دفع الضريبة، ومن كل السابق يتضح لنا الصورة الواقعية للوضع الاقتصادي، فالفلاح بلا أرض، وإن وجدت لدية ارض يثقل بالضرائب والديون والفوائد إلى أن تحجز أرضه وتباع من جانب البنك أو الدائن، والعامل بلا عمل، بسبب التميز في العمل، وقد أدى كل هذا إلى خلق فئات اجتماعية جديدة، يملؤها السخط والغضب ومؤهلين طبقيا ونفسياً للثورة.

فنجد ان بعد كل موجة من المهاجرين اليهود، يتزامن معها أحداث احتجاجية، تصل إلى حد الثورة، مثلما حدث في أعوام 1920، 1921، 1924، 1929، 1933، المسجلة في تقارير لجان التحقيق البريطانية المختلفة، ويمكن أن نري العلاقة الطردية، بين الهجرات اليهودية والحركات الاحتجاجية الفلسطينية عليها، من خلال الجدول التوضيحي التالي:

أما عن شراء الأراضي، الذي كان بمثابة الشق الثاني للمشروع الصهيوني في بدايته في فلسطين، بعد تهجير اليهود إليها، حيث لم تكن عملية بيع الأراضي وشرائها، عملية طبيعية مثل التي تحدث في مختلف المجتمعات، ولكن كانت عمليات بيع وشراء، تخدم أهداف سياسية بالمقام الأول، ولهذا يجب علينا فهم كيف تم البيع والشراء، وما هي ملابساته، فنرى أن هناك حوالي425,000دونم، تم نقلها إلى الصهاينة، على يد موظفين عثمانيين فاسدين،حتى بعد صدور فرمان بتحريم ذلك ونفس الرقم تقريباً، عن طريق سلطات الانتداب، إلى المستوطنين ،فنرى من أرقام لجنة “شو” البريطانية، أن إجمالي الأراضي الزراعية في فلسطين قد بلغ مليون دونم، لا يتعدى نصيب اليهود منها 8% وأن 10% من الأراضي الفلسطينية المباعة  لليهود كان بيد كبار الإقطاعيين ـ أراضي المشاع ـ وهذا يوضح أن 90%  من إجمالي الأراضي الفلسطينية، التي اشتراها اليهود، تم شراءها من أجانب غير فلسطينيين، حيث كان أقطاعي الشام يتحكمون بالأراضي منذ الاحتلال العثماني سواء في فلسطين أو سوريا أو لبنان،أو عرب عموماً وكان هناك عائلات أرستقراطية تمتلك مئات الآلاف من الدونمات  في فلسطين وهي لا تعيش فيها، مثل العائلات اللبنانية مثل عائلة النابلسي وسرسق وغيرهم، حيث عندما نفذ أتفاق سايكس-بيكو، كان لبنان تحت الاحتلال الفرنسي وفلسطين، تحت الاحتلال البريطاني، فكان من الأفضل أن يبيع ملاك الارض ،أملاكهم التي اصبحت، بعيدا عن سيطرتهم، وتحت سيطرة دولة استعمارية أخرى، وهذا كله أدى إلى انتشار السخط بين الفلاحين الفلسطينيين خاصة والشعب الفلسطيني عامة، حيث شعروا أن اراضيهم التي كان يعملون بها تباع بشكل مباشر، أو غير مباشر إلى اليهود عن طريق ملاك لا يعيشون في وطنهم ولا تعنيهم مشكلة الهجرة اليهودية وشراء الأراضي، فكانت تتم في الأغلب عن طريق سماسرة وبنوك أجنبية أو عن طريق مباشر مع المؤسسات الصهيونية، ورغم كل هذه الأنشطة التي ساهمت في انتقال، الأراضي إلى الصهاينة ،لم تبلغ نسبة الأراضي المملوكة لهم في عام 1947 ـ قرار التقسيم ـ سوى 7% من مجمل أراضي فلسطين، والباقي أستولى علية الصهاينة بالقوة المسلحة.

ومن الملاحظ أن، هناك، عامل في بنية الشعب الفلسطيني ،قد ساهم في  المراحل الأولى من الانتداب، بشكل أو بأخر بإعطاء فرصة سواء للانتداب أو للصهاينة  بتسهيل مهامه، حيث كانت طبقة كبار الملاك، وعقم برنامجها السياسي، وإخفاقهم في تحديد معسكر الأعداء، حيث اعتبار الانجليز حكماً وليس خصما مثل الصهاينة، وعقم وسائلهم، التي اعتمدت على المؤتمرات وإرسال الوفود، والخطابات وغيرها  من الوسائل التي لم تجدي فتيلاً.

في حين كانت البرجوازية الفلسطينية مازلت ضعيفة ومعها طبقة العمال والفلاحين، وأثر العديد من القرارات التي اتخذتها السلطات البريطانية، ومنها قانون نزع الارض الذي أصدر في عام ،1926 الذي خّول للسلطات أن تنزع الاراضي المشاع من المنتفعين بها، وإعادة توزيعها، وهو ما افاد المستوطنين، والشركات الصهيونية، وأسفر عن اندلاع حوادث مواجهة بين الفلاحين الفلسطينيين المطرودين من أراضيهم والمستوطنين الصهاينة.