اليومان السادس عشر والسابع عشر بعد المائتين لحرب الإبادة على غزة، 9 و10 مايو 2024
زارتني زميلةٌ وزميل للاطمئنان عليّ. سعدتُ جدًا بزيارتهما التي منحتني الكثير من مشاعر الودّ والحميمية في هذا الوقت العصيب، والثقة بترابط العلاقات الإنسانية بين الناس تحت الخطر. فبالرغم من أنّ علاقتي بكليهما كانت ذات طابعٍ مهني، ثمّ جمعتنا رحلةٌ قبل نحو سنة للمشاركة في إحدى ورشات العمل خارج قطاع غزّة فامتدّت بعض جسور الود بيننا، إلا أنّنا لم نلتقِ منذ ذلك الوقت، وها نحن قد جمعتنا مُجدّدًا الرغبة في الاطمئنان على بعضنا في هذه الظروف القاهرة التي نعيشها تحت وطأة العدوان الصهيوني الغاشم.
كما أضافت لي زيارتهما المزيد من المعرفة عن قصص النجاة من الموت المُحتّم، والتي هي أشبه بمعجزات القدر وأسبابٍ أخرى لإصرار الناس على البقاء في مدينة غزة وشمالها، وانتفاء رغبتهم في النزوح عن بيوتهم ومحيطهم الاجتماعي.
قالت زميلتي "لقد فوجئت عندما علمت أنّك موجودة ولم ترحلي خارج البلاد، أو حتى تنزحى نحو الجنوب، وفرحت أيضًا أنّ هناك من يشاركني وجهة نظري في البقاء وعدم النزوح".
طال الحديث بيننا وامتدّ لساعات، كُلٌّ يروي ما مررنا به عن حجم الخطر الذي واجهناه، والاقتراب من الموت ثم النجاة منه عدّة مرات.
قال زميلنا أنّه منذ بدء العدوان في الأسبوع الأول اضطرّ لمغادرة بيته في حي تل الهوى مثل كُلّ سكّان الحي الذي كان مُعرّضًا للخطر، واضطر لترك زوجته وأطفاله عند أقاربها باعتبار بيتهم أكثر أمانًا، أمّا هو فقد لجأ لمنزل أقاربٍ آخرين، وكان يُفكّر بالنزوح جنوبًا كما فعل البعض من أقاربه، ولكنّ ما حدث معه جعله يُغيّر رأيه تمامًا ويُلغي فكرة النزوح من رأسه. أمّا الحدث فهو أنّ طائرات الاحتلال قصفت المبنى الذي كانت فيه زوجته وأبناؤه، وعندما اتصلت زوجته تبكي وتصرخ وتقول لقد قُصفنا، هرع مُسرعًا باتّجاه مكان إقامتهم، وقال وهو يصف لنا المشهد وكأنّه حدث للتو: "وصلت المبنى لقيت الطبقات العالية مُنهارة على أرض الشارع، قعدت أتطلّع يمين وشمال وأنا أبكي على مرتي وأولادي، فجأة لقيت بنتي بين إيدين شاب طالعة من تحت الأنقاض، أخدتها وحطّيتها في السيارة ورجعت تاني لقيت زوجتي مصابة وأخدتها مع الولدين على السيارة ورحت على مستشفى الشفا، وهناك شفت الشهداء والجرحى نسوان ورجال، مناظر غير شكل. وأنا باتطلّع على بنتي ومرتي المصابة، آمنت لحظتها إنّه اللي بدّو يصير راح يصير وين ما كُنّا، سواء في غزة أو في الجنوب، يعني نجت زوجتي وأولادي من الموت وغيرهم مات، يعني اللي إله عُمر راح يعيش".
قالت زميلتنا مؤكُدةً على كلامه: "والله شُفنا الموت بعينينا، الجيش حاصر منطقتنا في معسكر جباليا أكثر من أسبوع وأنا والأولاد، بنتين وثلاث أولاد، قعدنا أربعة أيام مبطوحين على الأرض لا صوت ولا نفس ولا ضوء ولا حركة، لإنهم دخلوا البيت على الطابق اللي فوق وإحنا تحت، فتّشوا وما خلّوا دُرج ما فتحوه، وقبل هيك كانت الطيارة الدرون تدخل من الشبابيك وتصوّرنا جوّا البيت. آخر شي، دخلوا علينا نصّ الليل وحسيت بدهم يدخلوا عنا، شاورت للأولاد يناموا ويغمّضوا عيونهم، وقلت لحالي إذا قتلونا خلينا مغمّضين وما نشوف إشي، البسس تبعون الأولاد ناموا فوقهن، وكمان بسّتين تبعون الجيران اللي نزحوا ضلّوا عنا. وهيك ناموا الأربعة فوقنا، ودخل الجنود على العتمة ومعهم ضوء كشّاف، صاروا يمرّروا الضوء مرّتين ثلاثة، ما حدا فينا فتح عيونه، ولا نفس، حتى البسس ساكتين، بعدين حسّيت عليهم انسحبوا من البيت، وما صدّقت يطلع الصبح، وشفت الشارع فاضي وفش جنود، فطلعنا من الدار وراء بعض ورحنا على مستشفى قريب منا". سكتت لثوانٍ ثم أكملت: "صدّقوني يا جماعة لما أدركت إنّه البسس حمونا لأنه إلنا عمر، ساعتها قررت ما راح أروح أي مكان وما بدي أنزح، واللي إلنا نصيب فيه راح نشوفه".
كانت فرصةً لي أيضًا لأروي لهم كيف نجونا من الموت عدّة مراتٍ خصوصًا عندما حوصرنا وكنت ومن معي في البيت الوحيد المأهول في الشارع، في حين كانت بقيّة البيوت فارغة لنزوح سكّانها، كما لم نكن نشعل أيًّا من الأضواء أو نتحرك ولم يسمع أحدٌ أنفاسنا، حتى أنّ الجنود عندما مرّوا في الشارع الخلفي لم يشعروا بوجودنا، وزدنا اطمئنانًا بأنّنا نجونا عندما قذفت جرافتهم بكميات من الحجارة على مدخل زقاقنا كي تُفسح الطريق للدبابات بالمرور، افتراضًا أنه لا يوجد أحدٌ في الزقاق. أمّا كيف حسمت تردّدي بخصوص فكرة النزوح وإلغائها نهائيًا، فكانت بسبب خروجي من البيت مع صديقتي وقريبتي بالسيارة ورؤيتنا للمئات من المواطنات والمواطنين وهم يمارسون حياتهم الطبيعية في كُلّ شارع وكُلّ حيٍّ نمرّ به، عندئذٍ أدركنا أنّنا لسنا وحدنا في مدينة غزّة بل ما زال الكثير من سكانها فيها ولم يرحلوا، ولذلك لم نرحل نحن.
طوال جلستنا كانت حكايانا التي نرويها مرتبطةً بمن نجا من الموت رغم غارات الطيران والقذائف وانهيار المباني، إلا أنّ من نجوا من الموت كان قدرهم النجاة ومن ماتوا كان أجلهم قد انتهى، وفي ذات السياق تذكرتُ صديقةً أخبرتني أنّ نصف منزلها دمّرته قذيفةُ دبّابة وهم يُقيمون في القسم الداخلي وقد نجوا جميعًا من الموت، وأنّه بعد خروج الجيش من الحي بعدّة أيّام، توفي الرجل كبير السن في عائلتها وفاةً طبيعيةً عندما انتهى أجله.
هكذا تمرّ أيامنا ولقاءاتنا مع الآخرين، وأيضًا محتوى أحاديثنا في المكالمات سواء مع من هم وهن داخل القطاع أو خارجه، حول قصص النجاة من الموت، وأيضًا عدم الشعور بالأمان حتى الآن لأنّ الخطر قائمٌ طالما العدوان الصهيوني مستمر، ويزداد قلقنا كلّما تعنّتت حكومة الحرب الإسرائيلية برفض أيّ اتفاق يقود لوقف هذا العدوان، لأنّنا نضطرّ استحضار كُلّ مواقف الخطر التي مررنا بها ونأمل ألا تتكرّر مرّةً أُخرى على الإطلاق.
زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار