اليوم الثالث والثمانون والرابع والثمانون بعد المائة لحرب الإبادة على غزة، 6 و 7 أبريل 2024
سألتني إحدى صديقاتي، هل انتُشلت جُثث النساء اللواتي علقن تحت أنقاض منزلهن قبل خمسة شهور تقريبًا (أم وبناتها الثلاث، وأم أخرى وإحدى بناتها مع ثلاثة من الأحفاد)، حيث كنت قد كتبت عن قصّتهن، وللأسف اخبرتها أنّهن لم يُدفنّ حتّى الآن حيث لم يتمكّن أحد من الوصول لجثثهن، فجهاز الدفاع المدني لم يعد يملك الإمكانيات اللازمة كالسولار، والسيارات، والبواقر (آلية لإزالة الأسقف والأعمدة الأسمنتية) للقيام بالبحث وإزالة أنقاض المنزل.
تأمّلت في الأمر كثيرًا وأنا أعلم وجع وأسى أبنائهنّ الذين بقوا على قيد الحياة لأنهم لم يتمكنوا من دفن موتاهم، فكيف إذن سيكون حال ومشاعر من فقدن وفقدوا الأبناء والبنات والأمهات والآباء والأخوة ولا يعرفون مصيرهم ومصيرهنّ إن كانوا أحياءً ومُعتقلين لدى العدوّ الصهيوني، أو أمواتًا دُفنوا في قبورٍ جماعية سواء جُثثًا كاملة أو أشلاء جثث، أو أنّهم استُشهدوا واستُشهدن على الطرقات أثناء النزوح أو التنقّل بين شوارع المدن والقرى المهدومة، ونهشت جثثهن الكلاب بحيث لم يعد سهلًا التعرّف على جثثهم وجثثهن، وقد كانت وزارة الصحة قبل أكثر من شهرين قد نشرت إحصاءً تقديريًا لعدد المفقودين والمفقودات بنحو سبعة آلاف شخص، والمتوقّع أن يكون هذا العدد ارتفع كثيرًا خصوصًا مع جولات الغزو الصهيوني المفاجئة لأحياء مدينة غزّة وشمالها، أو خانيونس حيث اشتدّت شراسة العدوان الصهيوني.
شعرت بالأسى للحزن الشديد الذي بدا في صوت سيدةٍ اتصلت لتطلب منّي أن أحاول معرفة أخبار ابنها فيما لو كان حيًّا أو أنّه اعتُقل خلال الجولة الأخيرة للجيش الصهيوني التي داهم فيها مجمع الشفاء الطبي. وكانت هذه السيدة قد أُجبرت على النزوح بعد تدمير منزلها واستشهاد أحد أبنائها، ومن ثمّ فقدت الاتصال بالآخر الذي خرج لمتابعة حالة صديقه المريض، ولكنّه حوصر في مستشفى الشفاء مع الآخرين.
كانت المرأة تُخبرني كيف اجتاحها القلق والحزن والبكاء خصوصًا بعد سماعها عمّا ارتكبه الجيش الفاشيّ من مجازر وإبادة جماعية ضدّ المرضى والجرحى وضد النازحين والنازحات، وكيف دفن الجثث في قبرٍ جماعي وأهال عليهم التراب دون تعريف. ولكن بمجرّد خروج الجيش من المُجمّع أسرع الناس للتحقّق من الجثث فيما لو كان بينهم قريب أو قريبة، ولأنّ السيدة المُتّصلة لا تستطيع هي أو أيّ من عائلتها الوصول إلى مدينة غزة فقد حاولت أن تستنجد بكُلّ من تعرفهم لتتقصّى عن مصير ابنها الذي فُقد التواصل معه.
كم هو مؤلمٌ وموجعٌ هذا الكمّ من الإحساس بالفقد. تألّمت لألم هذه السيّدة وتمنّيت لو كُنت أعرف وجه ابنها أو حتى لون وشكل ملابسه لكنتُ حتمًا سأذهب لما تبقّى مما كان يُسمّى مجمّع الشفاء الطبّي لأبحث عن ابنها، ومعرفة لو كان شهيدًا أو مُعتقلاً، خصوصًا أنّنا سمعنا اليوم عن اكتشاف مقبرةٍ جماعية جديدة خلف المستشفى أيضًا، ما جعلها تعاود الاتّصال بي لتسمع أي خبرٍ عن ابنها فيهدأ وجعها وتقطع الشكّ باليقين بكونه حيًّا ومُعتقلًا أو شهيدًا.
"مش مهم يا أُستاذة، رجاءُ خبريني إذا عرفتي عنه أي إشي حتى لو كان ميّت"، ياه ما أبشع ما وصلنا له من درجات الفقد وكم هو موجعٌ أن تضطرّ الأمّ في لحظة قبول أيّ نتيجة معروفة حتى لو كانت موت ابنها أو اعتقاله لدى الاحتلال وكلاهما مُرٌّ مرارة العلقم، لأنّ معرفة الحقيقة أخفّ وطأةً على قلبها من جهل مصيره.
أتخيّل أيضًا وجع ذلك الزميل الذي حُوصر جوار مجمّع الشفاء الطبّي، وكيف مضى عليه الوقت وهو يجهل مصير ابنه وزوجته، وكُلّما حاول الاقتراب من المكان الذي قيل أنّهما شوهدا فيه يتراجع وهو يتألم بسبب إطلاق النار من القنّاصة، ويزداد شعور الإحساس بالذنب لديه لأنّه استجاب لطلبهما بأن يرحلا نحو الجنوب.
وأخيرًا بعد اثني عشر يومًا من استشهادهما عند دوّار كيرفور في حي تل الهوى وجد جثتيهما المتحلّلتين، حيث كانا متوجّهان نحو الجنوب كما أمرهما جنود الاحتلال، وعندما تركهما يرحلان أطلق القنّاصة عليهما النيران ليستشهد ابنه الطبيب الذي لم ير طفله الصغير طيلة ستة شهور هذا العدوان الغاشم وكذلك الأم الطبيبة التي لم ترَ حفيدها وباقي أولادها.
أشعر بالأسى وبالعجز لعدم قدرتي على مساعدة تلك السيدة، كما أشعر بمشاعر مُتناقضة وأنا أحاول دعمها ولو بالكلام، وفي داخلي صراعٌ حول ما هو الأفضل لمصيره: الاستشهاد أم الاعتقال، والكل يعرف كيف يُعذّب الاحتلال الصهيوني المعتقلين لإجبارهم على البوح بما يظنّون بأنّهم يعرفونه عن أماكن الأسرى الصهاينة المحتجزين في قطاع غزة، أو عن الأماكن التي قد يكون فيها قادة حركة حماس.
الجرح ينزف والأمهات يرفعن أيديهنّ إلى السماء في ليلة "القدر" كي يستجيب الله لدُعائهنّ بأن يحفظ أبناءهنّ وأن يلتقين بهم مرّةً أخرى على خير.
زينب الغنيمي، من مدينة غزة تحت القصف والحصار