مئة يوم من طوفان الأقصى.. قراءة في مبادئ العقيدة "الإسرائيلية" وظواهر انهيارها

كتبت زهراء رمال : "نحن في بداية كارثة. انهارت العقيدة الدفاعية العملياتية كلياً عند حدود قطاع غزة. هذا إخفاقٌ هائل". بهذه الكلمات عبّر المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلي، عاموس هرئيل، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، عن الصفعة المؤلممة التي تلقّاها الاحتلال مع الهجوم المباغت الذي شنّته المقاومة الفلسطينية، صباح ذلك اليوم.

على الرغم من وسائلها المحدودة فإن المقاومة نجحت عبر تكتيكاتها المتقدمة، خلال "طوفان الأقصى"، وباعتراف المسؤولين الإسرائيليين، في كشف عوامل القصور والضعف في بنية "إسرائيل"، من خلال تهشيم الواجهة الهشة التي كانت تعتمد عليها. ومثّلت الأزمة التي تلت تلك العملية نقطة تحوّلٍ مهمة في تاريخ الاحتلال، حيث زعزعت الأسس والمفاهيم التي استندت إليها العقيدة العسكرية الإسرائيلية.

ولعلّ الضربة المباغتة الأولى صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أحدثت انهياراً كاملاً في منظومة "الجيش" الإسرائيلي في المستوطنات المحاذية لقطاع غزة، إلا أنّ استمرار المعركة بالشكل الحالي ونتائجها الكبيرة على الأرض مع وصولنا إلى يومها الـ100، شكّل انهياراً شاملاً لأسس العقيدة العسكرية الإسرائيلية.

وهذا الأمر تسبب بإرباكٍ وقلقٍ كبيرين لدى الأوساط الأمنية والسياسية الإسرائيلية، إذ إنّ العقيدة العسكرية في السياق الإسرائيلي لا تقتصر على كونها منظومة عملياتية تضع الاستراتيجيات والتكتيكات الحربية، بل تشكّل أحد أبرز مكونات العقلية والهوية والسيكولوجيا الإسرائيلية المرتبطة بالوجود الإسرائيلي.

وبحسب تقرير نشره مركز "بيغن السادات" للدراسات الإستراتيجية، فإنّ الطريقة التي تُدار بها الحرب حالياً في غزة، تعمل على تغيير مكوّنات هذه العقيدة بشكلٍ جذري. وبعد انتهاء الحرب، ستكون هناك حاجة إلى مراجعة متعمقة لهذه العقيدة.

فما هي أبرز مبادئ العقيدة العسكرية الإسرائيلية؟ وكيف تحطمت بعد 100 يوم من معركة "طوفان الأقصى"؟

المبادرة، الهجوم، وشنّ ضربة وقائية
من وجهة النظر الإسرائيلية، فإنّ توجيه الضربة الأولى للعدو في أي معركة أو حرب يتسبب بإخلال توازن الخصم وشلّ قدرته على التفكير، خاصةً فيما إذا تم التخطيط بشكلٍ موزون للضربة الأولى، وهو ما قد يحسم المعركة. فباتخاذ المبادرة، يسهل التحكم في مكان وتوقيت الأحداث، فضلاً عن تحريكها والتحكم في سرعتها، الأمر الذي يجعل من السهل استغلال التفوق النوعي والتكنولوجي الإسرائيلي.

إلا أنّ الهجوم المباغت الذي شنّه المقاومون الفلسطينيون، والأداء الجريء المتمثل بخطوة الطائرات الشراعية، والقدرات التنظيمية، بالإضافة إلى التكتيكات المدروسة التي أفقدت قوات الاحتلال توازنها صباح السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، نجح في التسبب بتخبط القيادة الإسرائيلية، وتشتيت قدرتها في الوصول إلى الرد المناسب على هذا الاختراق العسكري والأمني لقواته ومحيطه الأمني في غلاف غزة .

وهو ما برز مع فشل "الجيش" الإسرائيلي في التدخّل سريعاً لاستعادة قواعده العسكرية والمستوطنات، إذ بقي المقاومون لمدّة لا تقل عن يومين داخل المستوطنات المحيطة بقطاع غزة.

نجحت المقاومة الفلسطينية حينها في أخذ زمام المبادرة، ووجّهت الضربة الأولى للاحتلال في الزمان والمكان اللذين اختارتهما، لتفقد بذلك "إسرائيل" عملياً قرار احتكار بدء قرار الحرب، كما فقدت عنصر المفاجأة والمباغتة التي كانت تتباهى به في السنوات الماضية، وتحديداً في حرب عام 2008 على قطاع غزة.

والأمر لم يقتصر عند هذا الحدّ، إذ حققت المقاوماً نجاحاً استراتيجياً بالحصول على عددٍ كبير من الأسرى، العسكريين والمستوطنين، وهو ما شكّل ورقة ضاغطة تملكها المقاومة الآن من أجل وقف إطلاق النار وتحرير الأسرى الفلسطينيين. وبات واضحاً بعد عملية "طوفان الأقصى" أنّ استراتيجية ردع غزة فشلت فشلاً ذريعاً، وأنّ المقاومة طوّرت قدراتها عسكرياً، تحت أقسى ظروف الحصار، إلى مستويات مذهلة، لتنجح في سحب البساط من تحت أرجل الاحتلال.

حربٌ خاطفة ونصرٌ حاسم
تسعى "إسرائيل" دائماً في حروبها إلى تحقيقٍ نصرٍ حاسم، ينهي الحرب سريعاً، ويحقق أهدافها السياسية والعسكرية. ويُعدّ هذا المفهوم من الأكثر أهمية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، إذ إنّ "إسرائيل"  لا تمتلك الامتياز الديموغرافي والجغرافي لتحمل حرب طويلة الأمد. وتنصّ هذه العقيدة على تحقيق انتصارٍ ساحقٍ وسريع، مع التركيز على الضربة المكثفة لقواعد العدو، وأن يعمل الجيش على فرض شروط إنهاء القتال من خلال قوة النيران في فترةٍ زمنية قصير.

إلا أنّ المقاومة الفلسطينية نجحت في جرّ "الجيش" الإسرائيلي إلى حربٍ طويلة لا يستطيع الجندي الإسرائيلي أن يتحمل تبعاتها الجسدية والنفسية. ومع وصول الحرب إلى يومها المئة، برز بشكلٍ واضح سقوط الدافعية القتالية والمواجهة، وانعدام الروح المعنوية العالية والحوافز لدى الجنود الإسرائيليون خلال مشاركتهم في القتال في غزة.

وتسبّب طول أمد الحرب بأزمات نفسية بين صفوف القوات الإسرائيلية، حيث نقلت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن مصادر في "الجيش" الإسرائيلي، أنّ نحو 1600 جندي عانوا أعراض التوتر وصدمة المعركة منذ بداية الحرب على غزة، فيما تمّ تسريح 90 جندياً من الخدمة بسبب الصعوبات النفسية. والأمر لم يتوقف عند العسكريين فقط، إذ إنّ المستوطنين اعترفوا أيضاً بأنهم ينهارون نفسياً، حيث وصل إلى مراكز جمعية "عران" الإسرائيلية للمساعدة النفسية 100 ألف طلب من مختلف الفئات والأعمار، بحسب صحيفة "معاريف".

بالإضافة إلى استنزاف المقاومة لقدرات الاحتلال المعنوية مع استمرار الحرب، نجحت أيضاً في استنزاف قدراته المادية، حيث ألقت تداعيات الحرب الطويلة على غزة بثقلها على اقتصاد كيان الاحتلال، إذ أكد موقع "i24NEWS" الإسرائيلي، أنّ "إسرائيل" انخرطت في أغلى حرب في تاريخ الكيان الإسرائيلي.

ويعاني الاقتصاد الإسرائيلي من ارتفاع نسبة البطالة ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تمّ تسريح مئات الآلاف من العمال، أو استدعاؤهم كجنود احتياطيين، وتزايدت طلبات الحصول على إعانات البطالة. يُضاف إلى ذلك الكلفة الكبيرة وغير المتوقّعة مسبقاً للعمليات العسكرية، والتي دفعت كيان الاحتلال إلى استدانة مئات ملايين الدولارات، وفقاً لما أوردته وكالة "بلومبرغ" الأميركية.

المعركة في أرض العدو.. وتقليل الخسائر
نظراً إلى وضعها الجغرافي – السياسي، وإلى كونها موجودة داخل رقعة إقليمية تهدد وجودها لتماسها الحدودي مع أعدائها المباشرين، صاغت "إسرائيل" استراتيجيتها العسكرية على أساس الحرص على الحسم في كل مواجهة، ونقل المعركة إلى عمق أرض العدو، لأنّ هزيمة "إسرائيل" في معركة أو حرب تعني تهديداً وجودياً وكيانياً.

وعملت القيادة الإسرائيلية على تطبيق هذا المفهوم في الحرب الحالية على غزة، بعدما فشل سلاح الجو الإسرائيلي وكلّ الأسلحة الدقيقة في حسم المعركة، حيث أخفقت الغارات الجوية على غزة في إسكات صواريخ المقاومة وإخضاعها.

وهو ما اضطر "جيش" الاحتلال إلى اجتياح القطاع برياً في أواخر تشرين الأول/أكتوبر. وكان هذا الارتداع عن الاجتياحات البرّية الواسعة بدأ يسلك مساراً تراكمياً، منذ ما بعد صدمة تجربة العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006، والتي حفرت في وعي الجيش وقادته قناعة بأن كلّ اجتياح برّي سيتحولّ إلى مستنقع لـ"الجيش" الإسرائيلي، وفرصة للمقاومة من أجل اصطياد جنوده، لتتعمّق هذه القناعة لاحقاً في المواجهات المتتالية ضدّ المقاومة في قطاع غزة، وتحديداً منذ عام 2008، وصولاً إلى عام 2014.

وعلى الرغم من هجومه البري المتواصل على غزة لأشهر، إلا أنّ "الجيش" الإسرائيلي لم يتمكن حتى الآن من تحقيق سيطرة عسكرية على المناطق التي توغّل فيها، حيث لا تزال هذه المساحات محاور اشتباك، علماً بأنّ الفرق في موازين القوى العسكرية بين "الجيش" الإسرائيلي بين وفصائل المقاومة لا يُقاس.

وعلى الرغم من مشاركة 3 من ألوية النخبة الإسرائيلية في القتال في غزة بكامل قوتها وعتادها، إلا أنّ الإعلام الإسرائيلي أفاد بعودة نصف شمال قطاع غزة إلى السيطرة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، بعد أقل من 100 يوم من المعركة. في غضون ذلك، سحب "الجيش" الإسرائيلي الآلاف من قواته في قطاع غزة، بأمرٍ من المستوى السياسي الإسرائيلي وحكومة الطوارئ. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يؤكد الفشل الإسرائيلي في "إدارة المعارك في أرض العدو"، وإخفاق محاولاته في التحكم في مجريات القتال.

وفي ما يخص مفهوم تقليص الخسائر البشرية، فإنّ هذا المفهوم قد انتفى بشكلٍ مع تامّ مع مقتل أكثر من 1200 إسرائيلي وإصابة 3500 آخرين في هجوم الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر، إلى جانب أسر المقاومة لأكثر من 250 عسكري ومستوطن. والأمر لم يقتصر عند هذا الحدّ، مع استمرار حصيلة قتلى "الجيش" الإسرائيلي في الارتفاع إلى قرابة 200 منذ بدء الغزو البري وفق اعتراف الاحتلال.

هكذا، أثبتت "طوفان الأقصى" أنها ليست مجرد معركة عسكرية رابحة فقط، فمفاعيلها تشير إلى أنّ العقيدة القتالية الإسرائيلية متضرّرة في أساسها، الذي بُنيت عليه. ولتداعيات هذه المعركة آثارٌ عميقة وطويلة المدى على كيان الاحتلال وأسُسه، ستظهر بعد انتهاء الحرب، بغض النظر عن مساراتها المستمرة ونتائجها اللاحقة.

وإذا ما قاربنا المبادئ التي تقوم عليها العقيدة الإسرائيلية ضمن مسار "طوفان الأقصى" المستمر، يظهر أن الأمر يتجاوز التضعضع إلى شبه انهيار على كافة المستويات، وهو ما تحاول "إسرائيل" تجاوزه من خلال ارتكابها للمجازر والإبادة الجماعية في قطاع غزة، في الوقت الذي يشهد التاريخ فيه أن العقيدة القتالية لحركات التحرر والمقاومة لا تزيدها جرائم الاحتلال إلا ثباتاً وقوة.

المصدر: "الميادين"