ورقة منذ زمن .. !!

بالعربي - كتب بدر القريوتي : 

في السابعة صباحا أيقظتها صديقتها ليحتسيان كوب القهوة المرة معا كعادتهما،يتبادلان حديث الأمس والمستقبل والآراء حول إمكانية حضور محاضرة الساعة الثامنة صباحاً في الجامعة ، يستقر لإحداهن رأي الخلود الى النوم مرة أخرى، أما الأخرى تقرر الذهاب دون تردد للمحاضرة ......هذه ورقة من زمن قد مضى ....تلتهم فطورها الخفيف ، وتكتفي بوضع أحمر الشفاه الخفيف الذي سرقته من خزانة صديقتها للتو ،ترتدي ملابسها التي تصادفها في أول صف من خزانتها الصغيرة ، في طريقها الى باب الخروج تأخذ بعض الكتب التي تلزمها في ذلك اليوم ....... كل تلك الخطوات لا تستغرق منها الا بضع دقائق حتى تهرع مسرعة على درج عتيق لسكنها القريب من جامعتها. شجرة البرتقال تحت شباكها قد لطخت بدخان السيارات وأصبحت كشجرة برية ، جدار الفصل العنصري يحجب الشمس عن غرفتها في كل صباح ... تصل أول الطريق المحفر الذي يطفوه ماء المطر في ذلك الصباح الماطر ..... كانت رغم شدة البرد مشرقة الوجه كأن حبات المطر أكملت باستحياء وضع الميكياج على وجهها. تكمل طريقها بعد أن أصبح بيتها المؤقت خلفها .

في بلادي ترى في كل طريق المشاهد التي تدفعك على الإصرار لما بدأت به ، إنك لا تقبل أن تكون كما أي مشهد متشابه في الطريق ... ليس كذلك المحامي الذي ينتظر التاكسي تحت الأمطار ليذهب الى قضية خاسرة . ولا مثل طبيب على الجانب الآخر ينتظر أن يرى النور في بلاده ... أو كالذي يبيع القهوة على الرصيف حتى مع ضحكته الصباحية ....ليس كمثل بائعة الفجل التي تحارب على ثلاث جبهات من أجل قوت يومها؛ المسكينة .

كل تلك المشاهد تراها ورقة من زمن حتى تركب الباص المهترئ ، هي في سن التاسع عشرة وكل تلك المشاهد لا تعتبر الشيئ الكثير بالنسبة إليها. .. تقول أنها تعيش عالمها الخاص ......... ( العالم الوهمي أو المزيف ) .
في المقعد الخلفي يستيقظها مقطع من أغنية لفيروز تحدثت عن عتمة الطريق لتشاهد أحلامها من جديد خلف زجاج الباص المتسخ الذي يحجب نصف مشاهد الشارع .

قهوة باردة ، وكتب قد باتت في سبات عميق في حقيبتها ،  زميلة بجانبها تضع يدها على خدها وكأنها تحمل اسرا كبيرا ، زميل آخر نام واستيقظ بنفس ملابسه قبل يومين، قليل من الطلاب...... تلك مشاهدها الثانية بعد وصولها قاعة المحاضرة الصغيرة  .

تخرج مسرعة من الصف تعاتب ذلك اليوم البائس الذي تحب تفاصيله في مخيلتها ، وبدا الوهم من صفاته . تقرر أن تجلس تحت شجرة على مقعد خشبي أبتل بقطرات المطر . تقرر حينها فتح ذاك القلب الصاخب بعد ان تخلت عن عالمها الخاص الخيالي الجميل كان .. لقد آمنة بعالم افتراضي آخر لا تقتنع به لكنها الحاجة أحيانا ، إنها بحاجة لأي زائر يطرق باب القلب المتعب والمهمل منذ زمن ، بالنسبة إليها كانت تنتظر طويلا ظنن منها أنه الشخص الذي حضرت له المكان الذي رسمته في يسار جسدها .

إن الإفراط في أحلام اليقظة قد يأدي بنا في يوم من الأيام الى الهاوية وتشويه كل شيء جميل بداخلنا لطالما حافظنا عليه حتى لو كان مجرد خيال نسجناه بأنفسنا بعالم خيالي بعيد عن الواقع، ويأتي وقت لا  نريد الإحتفاظ بهذا الشيء الجميل الذي يخصنا نحن فقط . لا بد من أن نعطيه على طبق من ذهب لمن يشوهه ، إننا لا نستطيع أن نكتمه داخلنا ليصبح ملكنا فقط ، نحن نأمن بأنه ليس لنا وحدنا ، وقررنا مسبقا بإعدامه على أيدي أشخاص آخرين ظنناهم مثلنا تماماً بكافة تفاصيلنا .

ورقة من زمن هي إحدى أوراق الخريف التي قد سقطت دون أن تدري لتصبح وحيدة بين أشواك الطريق وعتمة السيارات ....  كانت تجلس على المقعد الخشبي؛ خرجت مسرعة من غرفة الصف لتقرر فتح قلبها ولم تعلم أنها مثل تلك الورقة التي كانت خضراء تثمر وتزين كل شيء من حولها ،لكنها نسيت أنها ستسقط في فصل تلعنه دائماً.

تنهي دراستها الجامعية بقلب هش ، تعود لصديقتها تحتسي القهوة صباحاً وتطلق ضحكاتها الصفراء وتسرق أحمر الشفاة من غرفة صديقتها لمرة واحدة لتحاول أن تعيد ما سرق منها .

لم تستطع أن تسرق ضحكة واحدة من هذا الزمن المعهود بالنسبة إليها ، لقد أيقنت أن الفصول الأربعة متكررة في كل سنة .... إنها تنتظر الربيع القادم لتزهر من جديد .            ً