غادة السمان: محاولة تصحيح صورة"نزار"

بالعربي: أتابع اليوم أيضاً وقفتي مع القراء حول شعر نزار قباني و«أرواح الأماكن» حيث تساءلت: ترى هل يترك المبدع قبساً من روحه في الأماكن التي ولد فيها أو أقام؟

أفانين كبة – مونتريال توقفت امام إشارتي هذه، كما توقف عند ذلك عمرو ـ سلطنة عمان، حين علقت على ذهاب الاديب عبد الواحد لؤلؤة (الفائز بجائزة خادم الحرمين الشريفين في الترجمة) بحثاً عن بيت نزار القديم في دمشق ليقوم بزيارته. ووجدت ذلك مرهفاً. أما د. ماجدة حمود الأستاذة الجامعية والأديبة الناقدة فقد تأثرتُ حين ذكرتْ لي أنه تصادف وجودها في دمشق القديمة وهكذا بحثتْ عن «زقاق الياسمين» وعني وعن بطلة روايتي «فسيفساء دمشقية». وأعترف بأنني لطالما فعلت مثلهما في المدن التي مررت بها او اقمت فيها. ولا أمر قرب الدرج الاسباني في روما إلا واتذكر الشاعرين شيللي وكيتس فقد أقاما في غرفة هناك تدل عليها لوحة تذكارية تحت نافذتهما. أما في باريس فالزيارة إلى اشباح المبدعين تطول. هذا المناخ هو الذي التقطته أفنان من سؤالي «ترى هل نخلف قبساً من أرواحنا في الأماكن التي ولدنا فيها ثم رحلنا؟» فهي فيما يبدو خبيرة أيضاً بأرواح الأماكن واشباحها كما عمرو.

مقعد جدته الباكي

عمرو يشارك قائلاً: «نحن مسكونون بتلك الأماكن ويضيف: أذكر أنه كان لدينا مقعد (كنباية) تجلس عليها جدتي دائماً… وعندما توفيت بقينا نراها في المكان نفسه ونبكي» ولا ينسى الأدباء والكتاب الذين قرأ لهم فهو يشاهد في مخيلته أماكنهم الأولى ولديه فضول لزيارتها في بيروت ودمشق وسواهما.. والحقيقة أن في بيوتنا جميعاً مكاناً كان يحتله انسان حبيب ورحل ولا نجرؤ على الجلوس فيه ونحس بحضور الغائب في مقعده الخالي وندمع!

نزار يستحق إزاحة الستار

أعود إلى موضوعي الأساسي حول تصحيح صورة نزار، إذ ما يزال الستار نصف مسدل بين حقيقة نزار ومعتقدات بعض القراء حوله. فهو مشهور لدى الكثيرين كزير نساء ويستشهدون بقصيدته:
لم يبق نهد أسود أو أبيض
إلا وزرعت بأرضه راياتي
لم تبق زاوية بجسم جميلة
إلا ومرت فوقها عرباتي
فصلت من جلد النساء عباءة
وبنيت أهراماً من الحلمات!
ولكن نزار الذي كتب هذا الكلام نجده في قصيدة أخرى يسيل محبةً وعدالةً وغضباً لموت أديبة شابة موهوبة في الثلاثين من عمرها بحمى النفاس إثر ولادتها وكان ينبغي ألا تحمل حتى من أجل إنجاب صبي وهي التي كانت قد مرت قبلها بولادة عسيرة ببنت كادت تقتلها. وقصيدة رثائه لها تقع في ثمانين بيتاً من الشعر الموزون المقفى بخط يد نزار ألقاها في حفل تأبينها في «مدرج جامعة دمشق» وهو في سن الصدق اللامهادن أي في العشرينيات من عمره. فقد عرف الأديبة الراحلة بحكم قرابته العائلية وزوجها: في القصيدة صبّ جام غضبه على المجتمع الذكوري متحدياً مألوف ذلك الزمان في قصائد الرثاء. ومما جاء فيها:
أمهات يذبحن في مفرش الوضع/قرابين في سبيل جنين/وعلى الأرض ملحد ينكر الأم/ويزري بها فيا للبنين/فاجرفي يا زوابع الهول نسل اللؤم/جرفا ويا جهنم كوني/اقطعي نسلهم فلا حملت انثى/بذرية الضلال المهين. ويقول ايضاً مخاطباً أمي: بعد عينيك مات حلو رنيني/والغنوج الممراح من تلحيني/ايه يا سمرائي الشهيدة .. لم أخلفت وعدي والعهد ان تصدقيني/في حجاك الكبير دنيا بلاغات/وكنز من البيان المبين..
ونلحظ أن نزار هنا يقدر «دنيا بلاغات وبيان» أي أنه يقدر الأنثى كعقل مبدع. إنه يغار على انسانية المرأة حتى لتبدو قصيدته التي فصّل فيها من جلد النساء عباءة، مجرد لحظة زهو ذكورية. ومن منا يستطيع تبرئة نفسه من لحظاته الزهو العابرة؟

المبدع ليس أرضاً منبسطة

لا ينكر محايد ان للمبدع مغاوره وقممه وأمزجته ودهاليزه وظلاله ويكمن سحره في عمقه.
نزار عاشق أيضاً لدمشق وفخور بها يقول:
سلام على ياسمين دمشق
يعربش حيناً على كتفي
وحيناً على شرفات الغمام
ويجعلني ملكاً أموياً/ونافورة في بيوت الشام
القارئ رياض – المانيا كتب: «لنزار قصائد في حب دمشق. تعجبني له هذه القصيدة» وكان محقاً في إعجابه بعمقها والتباسها حتى لنتساءل هل يخاطب نزار فيها حبيبته ام مدينته الحبيبة. ويقول نزار فيها: أكرهها.. وأشتهي وصلها/وانني احب كرهي لها/احب هذا اللؤم في عينيها/وزورها.. إن زوّرت قولها/وألمح الكذبة في ثغرها/دائرة… باسطة ظلها/عين، كعين الذئب محتالة طافت أكاذيب الهوى حولها.
وأكرر السؤال: هل كان نزار يعني بها دمشق التي ظلمته وأقامت القيامة ضده حتى في «مجلس النواب» حين نشر رائعته عن أهل الشام: «خبز وحشيش وقمر». ام خاطب فيها حبيبتة؟

نزار والوطن

«هوامش على دفتر النكسة «قصيدة دامعة كتبها إثر هزيمتنا في 5 حزيران/يونيو 1967 وثمة قصيدة شبه مغمورة لنزار حول وفاة جمال عبد الناصر غنت ام كلثوم مقاطع منها ومما جاء فيها:
الحزن مرسوم على العيون/والأنهار والمنابر/وأنت سافرت ولم تسافر/فأنت في رائحة الأرض/وسيف كل ثائر/كم جرحنا كبير/لكننا نؤمن بالله العلي القدير..
ولا تكفي هذه العجالة لتصحيح صورة نزار وإيفائه حقه، فالمبدع الكبير ماسة متعددة الوجوه ونزار ليس بكل بساطة «شاعر المرأة»..

إنه شاعر مبدع.. شاعر (كثير)..