"رسائل الكرز".. آدم وحواء السوريان في الجنّة الجولانية

بالعربي: تحيلنا التجربة الإخراجية الأولى لسلاف فواخرجي، في فيلمها "رسائل الكرز" إلى مستويات متعدّدة، من سرد ترويه الصورة إلى قصّة حب تجري أحداثها في الجولان السوري المحتل، بعيد استقلال البلد عن سلطة الانتداب الفرنسي في العام 1946، نتعرّف عبرها على بطلي الفيلم سما (دانا مارديني) وعلاء (محمود نصر)، كمقاربة لشخصيتي آدم وحواء سوريين، يترعرعان بمرحٍ طفولي وحرّيةٍ بدائية بين بحيرات وغابات أقرب إلى جنة مفقودة.

تبدو الخطيئة الأصلية في هذا الفردوس الجولاني عبر تناول العاشقين حبات الكرز من أغصان الشجرة المحرّمة. تتخذ هذه الثمار الدامية بُعداً لسينما شعرية طهرانية، بتحوّل عصير الكرز إلى حبر تصنع سما/ حواء كيمياءه الخاصة، كاتبةً به رسائلها إلى حبيبها آدم، المنفي عن جنّته الجولانية إلى قفار واسعة، تقوده في نهاية المطاف إلى دمشق بعيد اجتياح الاحتلال الصهيوني  الجولان واحتلاله. علاقة سحرية تبرمها فواخرجي منذ المشاهد الأولى لمولد بطل الفيلم علاء، ودفن أبيه لحبل سرّة وليده الصغير مع بذور شجرة الكرز في حفرةٍ واحدة، حيث تبدو هذه الطقسية المأخوذة من أعراف الفلاحين في الجنوب السوري تأكيداً على وحدة مصير الأرض كرحمٍ مرتقب للطفل الوليد لتوّه في عام الاستقلال، وبين الشجرة التي ستكتب تاريخاً له بيدي امرأة ستحبّه إلى الأبد، رافضةً الزواج بمن يُشاركها جنون الصبا ومَيعة الشباب، احتجاجاً وأملاً بالعودة التي طال انتظارها قرابة نصف قرن، إذ تنتهي قصة الحبيبين المنفيين من جنّتهما المحتلة بالوقوف عند شريطها الحدودي الشائك، لتنغرس أصابعهما في أشواكه، فيسيل الدم متحوّلاً في لحظة سينمائية لافتة إلى كرز في كفّيهما المخضّبين بدمائه.

الشريط المأخوذ عن قصة للأديب نضال قوشحة والحائز (جائزة أفضل فيلم عربي في "مهرجان الإسكندرية الدولي 2105" لا تغيب عنه أحداث سياسية متتالية شهدتها الجبهة السورية مع الاحتلال، من حرب 1973 ورفع الرئيس الراحل حافظ الأسد العلم السوري في سماء القنيطرة بعد تحريرها (1974)، وصولاً إلى اللحظة السورية الراهنة التي تغطي فيها أصوات القذائف سماء دمشق. إلا أنه يحتفي بشكل خاص بالجرح الفلسطيني المفتوح منذ 1948، عبر شخصية عطا الله الحيفاوي (غسان مسعود)، عازف الناي الأعمى الذي يحلم هو الآخر أن يُدفن تحت شجرة الكرز إن لم يعد إلى حيفا، ثم نراه في لحظة هزيمة الـ 67 يبدّل نايه ببندقية، متقدّماً عبر أشجار الغابة، ومطلقاً النار على جهات العالم الأربع، مخاطباً بمرارة من خذلوه.

تعتمد فواخرجي على السرد الواضح للأحداث، معوِّلةً على قوّة الرمز وفصاحته البصرية، ومتكئةً على اللقطات القريبة لشخصيات فيلمها، جنباً إلى جنب مع اللقطات المتوسطة والبعيدة، لمقاربة بيئة الجولان السوري في مواقع التصوير التي تُحقّق جزءاً كبيراً منها في قرى صافيتا وطرطوس. فوِفق مونتاج متواز بين عدة أزمنة، تقاربها موسيقى هايك يازجيان بحرفية عالية، تضع المخرجة حدوداً للنوع الذي اشتغلت عليه، محاولةً إبعاد هوية فيلمها عن مفهوم الـ "كليب"، والتمسك أكثر فأكثر بشاعرية لونية تمزج المخيلة الرومانسية بالحرب. هذا التحدّي يجعل شخصية الفيلم أقرب إلى مداعبة رمزية للدم السوري، الذي يستحيل هنا كرزاً دموياً تلتبس عبره الحدود بالبلاد المحاصرة. كما تتداخل كوادره المتواترة بين عدة أحداث متباعدة في الزمن، محاولةً صوغ ما يشبه مقطعاً "عرضانياً" من حياة الجولانيين ما قبل الاحتلال. فالبيت المهجور كحقيبة ذكريات قديمة، وماكينة الخياطة المعطّلة في بيت النزوح الدمشقي. كلّها تُصبح في عرف الواقع الراهن للسوريين مخطوطات مطوّلة من الدم، لا تشفع لها أغنيات ورقصات العرب والشركس فرحاً بالغلال، بقدر سطوع البندقية التي يسدّدها رجلٌ أعمى، مطلقاً صرخاته الفلسطينية الجريحة رصاصاً على من خانوه في أسواق الأمم المتّحدة.

(وكالات)