الوعي الاستهلاكي واستدخال العلامة التجارية فيه

جبريل محمد

في ضوء الدعوة ليس لمقاطعة بضائع الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل مقاطعة المنتجات التي ثبت أنها تدعم علنا جيش الاحتلال، رغم انها ليست موجودة في دولة الاحتلال، وفي ظل انتقال المقاطعة من حالة نخبوية الى حالة شعبية جديدة نشأت مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما افرزته عملية "طوفان الأقصى" من زخم جديد في الوعي الشعبي، أصبحت المقاطعة إحدى التعبيرات الأساسية التي ترجمت الى مسلكيات تمارس يوميا بين الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية؛ إذ بتنا نشاهد في المحلات التجارية نساء تتجول بين رفوفها، وتفتح هواتفها الذكية لفحص البضائع التي يمكن ان تشتريها، من ضمن قائمة استرشادية تحوي المنتجات المقاطعة.

صورة أخرى يمكن مشاهدتها على رفوف المحلات، تتمثل في المزج بين اعلان صاحب المحل عن المنتج الوطني بلافتة تشير اليه، وظهور أكثر من سلعة وطنية منتجة محليا تشكل بديلا سواء للسلع المقاطعة او تلك المستوردة.

تعكس هذه الصور نوعا من التحول الإيجابي في الوعي الاستهلاكي الشعبي الذي يحتاج الى تعزيز وإدامة، بحيث يصبح سلوكا متمثلا في الوعي الفطري للإنسان، بما يشعره امتلاك حرية الاختيار بين المقاطعة وبين تشجيع المنتج المحلي او التوجه الى بضائع مستوردة لا تدعم سياسة دولة الاحتلال.
إضافة لذلك، هناك ظاهرة جديدة نشأت مع انتشار سلوك المقاطعة، ألا وهي ظاهرة الاستغناء، بمعنى ان حالة الاستهلاك التي كانت قائمة قبل السابع من أكتوبر (2023) لم تعد قائمة، بل إن نزوعا استهلاكيا مرشدا بدأ ينتشر في الأوساط الاجتماعية، يقوم على الاستغناء عن بعض المظاهر الاستهلاكية، كارتياد المقاهي والمطاعم الفخمة او البحث عن علامات تجارية مميزة لبعض الملبوسات وغير ذلك.

هذه النزعة الجديدة لها اسبابها الاجتماعية الاقتصادية التي عززتها نزعة المقاطعة، فانقطاع العمال عن العمل في سوق العمل الإسرائيلي، وعدم توفر الدخل المريح لممارسة عادات استهلاكية طارئة بفعل الوفرة، إضافة الى تأخر او انقطاع رواتب العاملين في القطاع الحكومي نتيجة حجز إسرائيل لضريبة المقاصة، وتقلص التمويل الدولي للمنظمات غير الحكومية، أدى الى تراجع في النزعة الاستهلاكية. حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة حوَّل مقاطعة منتجات الاحتلال وداعميه الى سلوك شعبي، فتعززت ظاهرة الاستغناء، وهذا سلوك تقدمي يعزز الشعور بالثقة والمواطنة الحقيقية، ويحرر الكثيرين من الصنمية السلعية وأثر المحاكاة الذي توسع وانتشر بفعل العولمة الرأسمالية.

ما هو أثر المحاكاة؟
يرى توماس سنتش الفيلسوف في الاقتصاد السياسي، ان أثر المحاكاة ناتج عن التخلف المتمثل في عدوان استعماري قطع التطور الطبيعي للبلدان التي خضعت للاستعمار وفرض عليها التبعية. هذا الأثر يقارب ما تكلم عنه كل من فرانتز فانون وجان بول سارتر حول تشبه المستعمَر (بفتح الميم) بالمستعمِر(بكسر الميم). وأثر المحاكاة لدى سنتش يتجاوز الاستهلاك الى القيم الثقافية الناتجة عنه، او القيم الثقافية التي ينتجها هذا الأثر، حيث نتيجة محاكاة النزعات الاستهلاكية في المجتمعات الغربية، تسود ثقافة تعميم هذه النزعة من خلال الترويج للعلامات التجارية الأكثر استهلاكا في المركز الرأسمالي، وبالتالي عولمة هذه العلامات بين الأوساط المستهلِكة، وبخاصة بين الأجيال الشابة في دول الجنوب، حيث يلعب الاستعراض دورا مهما في اظهار المكانة الاجتماعية والاقتصادية للمستهلِك.

فخلال تجوالنا في الأسواق او تعاملنا مع قطاعات اجتماعية مختلفة، نلاحظ الحرص الزائد لدى الشباب على الظهور بأنهم يستهلكون هذه العلامة التجارية من الملابس والاحذية والعطور وحتى السجائر وليس غيرها، ما يشبع رغبتهم بظهور يعطيهم ملامح ما يعرف بـ "العصرية"، دون إدراكهم أنهم بذلك يشكلون وسيلة ترويج مجانية للسلع، لا بل هم يدفعون ثمن ترويجهم لهذه السلعة من خلال شرائها، وهذا نوع من الاغتراب الثقافي والفكري يعزز الشعور بالدونية، ليس فقط امام المركز المورد لهذه البضاعة بل امام البضاعة ذاتها.

هل يمكن تجاوز ذلك؟
في استراتيجية إحلال الواردات التنموية، يلعب أثر المحاكاة في الإنتاج دورا مهما في هذه الاستراتيجية، فالدول التي انتهجت مثل هذه الاستراتيجية كمصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، حاولت محاكاة الإنتاج في الدول المتقدمة بهدف كسر حلقة من حلقات التخلف والتبعية، فاستطاعت ان تقطع شوطا كبيرا في عملية توطين الصناعات. كذلك الامر في ماليزيا وسوريا والعراق والدول التي اختارت استراتيجيات وطنية للتنمية، فللمحاكاة هنا دور إيجابي لأنها تدفع نحو التقدم والاستغناء عن المنتجات المستوردة، وتحاول استغلال الموارد الوطنية بشكل اكثر نجاعة من اعتماد الاستيراد.

من هم الفاعلون في هذا التوجه التجاوزي؟
اذا كان هم المستورد تسويق بضاعته وتحقيق الربح، فهو يستند بالأساس الى استشراف ميول الناس والاستيراد على أساسها، او انه يستخدم نظرية جانب العرض، بمعنى انه يعكس القانون الذي يقول ان الطلب هو مولد العرض، فيعمد إلى خلق الطلب من خلال العرض، كما أوضح العالم الاقتصادي المصري جلال امين، وبالتالي لا مصلحة للمستورد في مواجهة أثر المحاكاة. اما المنتج فله مصلحة في ذلك، لكنه يلجأ أيضا الى حسابات السوق والمنافسة، ما يجعله يحجم عن المواجهة في سوق محسوم أصلا لصالح العلامة التجارية عالية الترويج.

فمن هم أصحاب المصلحة في ذلك:
يعتمد الامر أساسا في هذا المجال على الوعي، ومدى تفاعله الجدي مع هذه الظاهرة، والتي تعمقت بحيث بات كثير من المستهلكين يميزون بين البضاعة القادمة من المصدر الأصلي وبين من يقوم بتقليد هذه البضاعة، وهم يشغلون انفسهم ووقتهم في ذلك مع ان الامر لا يستحق كل هذا لو تعمقنا في ضرورة ان يكون استهلاكنا راشدا، ومتلائما مع احتياجاتنا المادية والنفسية الحقيقية.

المعنيون بالأمر هم الأكثر استهلاكا، والقطاع الأكثر وعيا بينهم هم المنتمون الى الطبقة الوسطى في المجتمع. هذه الطبقة تحديدا يمكنها ان تكون حاملا اجتماعيا لمختلف اشكال السلوك، نظرا لاختلاف مواقعها في العملية الإنتاجية، وبالتالي يلعب المثقفون فيها دورا مهما. كما تلعب منظمات الشبيبة، وبخاصة النسوية منها، دورا أكبر، علاوة على دور المجتمع المدني ومؤسساته في هذا المجال، ودور الأحزاب السياسية ذات التوجه الاستقلالي عن المركز الرأسمالي العالمي.

حملات التوعية في هذا المجال ضرورية ومهمة، كما ان بناء ثقافة استهلاكية متلائمة مع شعب تحت الاحتلال يحتاج الى جهد كبير يحول الطاقات المستنزفة في الولع بالعلامات التجارية المعولمة، الى طاقة تُبذَل في مجال آخر يسهم في تعزيز الاستقلالية الذاتية والشعور بالكفاية، بدل الشعور بالنقص كما أورد مصطفى حجازي.

لقد لعب نظام التخلف والتبعية والانغماس في الحالة العولمية دورا كبيرا في تحويل انسان الجنوب من حالة الانسان المقهور الى حالة الانسان المهدور. لذا، مهمة المناهضين لتغول هذه العولمة المتوحشة، إنهاء حالة الهدر والقهر لهذا الانسان.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية