حركات التضامن مع فلسطين، التاريخ، التأثير، المستقبل

بالعربي: بعد السابع من أكتوبر العام الماضي، شهدت كثيرٌ من دول العالم حركةً تضامنيةً واسعةً مع الشعب الفلسطيني ومقاومته، التي تخوض غمار معركة طوفان الأقصى ضد الاحتلال الصهيوني. ونظرًا لأهميّة هذا الدور التضامني، عقد مركز رؤية للتنمية السياسية لقاء مع الأكاديمية الفلسطينية د.رباب عبد الهادي، وهي من أهم المثقفين المشتبكين والناشطين في العمل التضامني مع فلسطين، ومختصة في الدراسات العرقية والاستعمارية والمقاومة في الولايات المتحدة. عملت أستاذة في العديد من الجامعات والمعاهد الأمريكية، مثل جامعة ميشيغان وييل، وجامعة سان فرانسيسكو. وتعرّضت عبد الهادي، خلال ما يزيد عن 15 عامًا، للهجمات الصهيونية والعنصرية لتشويه لسمعتها، وتهديدات بالعنف، وتوجيه تهم ملفقة لها بغرض طردها من عملها، وأخطرها دعوى قضائية في المحكمة الفيدرالية. إلا أنّها انتصرت ضدّ هذه المحاولات كافّة، واستمرت في بناء برنامجها لتدريس فلسطين. كما ألّفت الكتب، وكتبت الدراسات والمقالات في مواضيع متعددة، منها التضامن، ومناهضة العنصرية، والحركة النسوية، وغيرها.

تبعًا لدورها البارز في تأسيس لجنة التضامن مع فلسطين، وفي عدد من اللجان والفعاليات التضامنية في الولايات المتحدة، عقد مركز رؤية هذه المقابلة مع الدكتورة رباب عبد الهادي؛ بهدف الوصول إلى فهم أعمق وأوسع لحركات التضامن مع فلسطين في الخارج، وكيفية تشكيل هذه الحركات، وتطورها عبر الزمن، وتصاعد دورها بعد السابع من أكتوبر. وقد طرح المركز عددًا من الأسئلة التي صيغت لفهم سياق حركات التضامن التاريخي، وتأثيرها، ومستقبلها. وجاءت المقابلة على النحو التالي:

باختصار، كيف يمكن تعريف حركات التضامن مع فلسطين؟
حركة التضامن مع فلسطين هي جزء لا يتجزأ من الحركة التضامنية العالمية، التي تشمل مجموعة من الحركات الاجتماعية المختلفة التي يناضل من أجلها المضطهدون في أماكن مختلفة من العالم، مثل: حركات السلام والعدالة، وحقوق السود، والعمال والمرأة، والمهمّشين والمضطهدين والمستعمَرين المنتشرة في العالم.

التضامن هي عملية جدلية مترابطة مع بعضها البعض؛ فهي تدعم الشعوب المستعمَرة الثائرة في صراعاتها ضد الاستعمار والقمع والعنصرية والاضطهاد من ناحية، ومن ناحية أخرى تتضامن معًا لتحقيق حريتها. أي إنّ حركات التضامن لا تطالب فقط بتسوية النزاعات، وإنما تنحاز إلى جانب الطرف المضطَهد.

تختلف التركيبات والقواعد في كل مجموعة عن الأخرى، وتعتمد هذه القواعد في تشكيلها للخطاب التضامني مع فلسطين على الفضاء الجغرافي الذي تتواجد فيه هذه المجموعات، وطبيعة ارتباطها مع القضية الفلسطينية، والتجارب النضالية التي مرت فيها هذه الشعوب. ويمكن لمس هذه الفروقات في آليات وحجم التضامن مع فلسطين بين الشعوب العربية والإسلامية، وشعوب العالم الثالث، والشعوب الغربية على الناحية الأخرى.

 

ما الجذور التاريخيّة لحركات التضامن مع فلسطين، وما أبرز التحوّلات التي طرأت عليها؟
في التاريخ الحديث، برزت فكرة التضامن بشكل عام، خلال القرن التاسع عشر عبر حركات التضامن العمالية، التي أثّر عليها وجود المفكر كارل ماركس، حيث أصبحت حركة التضامن مع الوقت حركة عالمية تحت شعار “جرح لأحدنا هو جرح لنا جميعًا”، وتركزت هذه التحرّكات التضامنية ضمن صفوف العمال تحديدًا، في مختلف أماكن تواجدهم. قائد شيوعي آخر هو فلاديمير لينين تحدث عن حرية الشعوب في تقرير مصيرها، ودعا إلى استقلال الشعوب المستعمرة وحقها في الدفاع عن نفسها، وألّا تقتصر حركات التضامن على الحركة العمالية فقط.

يمكن إرجاع تاريخ حركة التضامن مع فلسطين إلى مؤتمر باكو الذي عقد عام 1920، وهو المؤتمر الذي دعا له الحزب الشيوعي السوفييتي وضم مجموعات يسارية وعمالية مختلفة حول العالم.

تعرقلت هذه الحركة التضامنية مع بروز القوة الصهيونية العمالية التي اعتمدت على رواية التضامن الأممي بين العمال، وفي نفس الوقت ساهمت في احتلال فلسطين، فأصبح هناك مجموعتا عمال في فلسطين، الأولى هي حركة الفلسطينيين أنفسهم الذين يفكرون بتحرير بلدهم من الغرباء المحتلين، والمجموعة الثانية هم العمال اليهود الصهاينة الذين احتلوا الأرض.

أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، في الفترة الواقعة بين 18 تموز 1936 وحتى نيسان 1939، ناضل عدد كبير من الفلسطينيين إلى جانب الشعب الإسباني ضد ديكتاتورية “فرانثيسكو فرانكو”، ساهمت هذه المشاركة في تعزيز التضامن مع الشعب الفلسطيني في إسبانيا، إلا أن الحركة الصهيونية تمكنت من تعطيل حالة التضامن مع فلسطين وقتها.

يعتبر الشيخ عز الدين القسام من أبرز وجوه التضامن مع فلسطين، وهو الذي قدم من سوريا وقاد حرب عصابات ضد إسرائيل، تشبه إلى حد ما صورة مصغرة عما يحدث اليوم في غزة على صعيد حرب المجموعات المسلحة.

نشأت الكثير من حركات التضامن في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وفي أحضان الشعوب المقهورة والمقموعة، خصوصًا مع ظهور حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا، ومن ثم أميركا اللاتينية. وهذا ما ساهم في وحدة قتال الشعوب المستعمَرة ضد المستعمرين البريطانيين والفرنسيين، وقد كانت فلسطين آنذاك خاضعة للاستعمار البريطاني. وزاد زخم التضامن مع فلسطين بعد النكبة عام 1948.

استمر الدعم العالمي للقضية الفلسطينية على مدار السنوات اللاحقة، في مؤتمرات حركة عدم الانحياز، التي تأسست عام 1955 في مدينة باندونج في إندونيسيا،  وتطرقت لقضية فلسطين؛ خاصة أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر كان من أهم قياداتها. وممّا يهمّ هنا أيضَا أن نذكر تشي جيفارا، أحد قادة الثورة العالمية، وزيارته لقطاع غزة عام 1959 دعمًا وتأييدًا للشعب الفلسطيني، وذلك بعد أشهر فقط من انتصار الثورة الكوبية، التي هزت الأمريكيتين، وما زالت شوكة في حلق الإمبريالية الأمريكية.

ظهرت، في الفترة ذاتها، منظمة التحرير الفلسطينية، والاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي لعب دورًا أساسيًا في رفع وعي وتنظيم الطلبة الفلسطينيين في العمل السياسي والفدائي، وبناء وتطوير حركات التضامن مع فلسطين، وكذلك لعب الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية دورًا مماثلًا، ولكنه لم يكن بمستوى الطلاب.

لعبت الصين دورًا كبيرًا في تدريب المقاتلين الفلسطينيين، كما دعمت الفلاحين الفلسطينيين حسب رؤيتها للماركسية، وطبيعة مجتمعها الفلاحي، وهذا ما جعل الصينيين أقرب لفلسطين، ومناهضين للصهيونية نوعًا ما. قبل أن يتخذ الاتحاد السوفييتي قرار الاعتراف بالمقاومة الفلسطينية، ومدّها بالسلاح والتدريب.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، قاتل المناضل الأميركي، مالكوم إكس، ضد العنصرية، ونصرة لحقوق السود، وناهض الحركة الصهيونية، ودعم الفلسطينيين. بالإضافة إلى حركة الفهود السود في أميركا، وكان أبوها الروحي روبرت إف ويليامز، الذي رفض الحركة الصهيونية ودعم فلسطين. تطورت هذه الحركات وبرزت بشكل كبير خلال فترة الستينيات مع ظهور حركة التحرر الوطني الفلسطيني.

ويجدر بالذكر أن مالكوم إكس وروبرت ويليامز لم يكونا الوحيدين في حركة السود الأميركيين الداعمين لنضال الشعب الفلسطيني، فلا ننسى مجموعة المثقفين والنشطاء والأكاديميين السود التي أصدرت أولى البيانات المتضامنة مع نضال الشعب الفلسطيني، في إعلانها في صحيفة النيويورك تايمز، في الأول من نوفمبرتشرين الثاني عام 1970، والتي حددت بشكل واضح ارتباط تحرير فلسطين بتحرير إفريقيا من الاستعمار، وتحرير السود في أمريكا من تبعات العبودية والاستعمار. ويبرز هنا أيضًا دور الملاكم الأممي محمد علي كلاي، الذي أعلن رفض الخدمة العسكرية في فيتنام بتأثير من اعتناقه للإسلام، وعلاقته مع مالكوم إكس من ناحية، ونهوض الحركة الأمريكية المناهضة للحرب في فيتنام من ناحية أخرى.

حاربت بعض الدول الغربية القضية الفلسطينية؛ تحت شعار رفض الشيوعية، حيث كانت الدول الغربية تصوّر الشيوعية وحشًا يريد التهامها، والمقاومة الفلسطينية واجهةً للدول الاشتراكية، وخاصة الاتحاد السوفييتي، وكأن الشعب الفلسطيني ليس له قضية يدافع عنها، أو كأنّه لا يتمتع بالعقلانية، بل يقوده السوفييت كالغنم، تمامًا كما تحاول وسائل الإعلام الصهيونية والاستعمارية الغربية الادعاء بأن حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى لا تتحرك إلا بأمر إيران.

بعد عام 1967، اختلف الوضع تمامًا، بسبب مجموعة من التطورات على الساحة الفلسطينية، اتضحت معها ملامح حركة التضامن. فالسود الأميركيون والشعب الفيتنامي أعلنوا تضامنهم مع فلسطين، وكذلك الشعوب المساندة لحركات التحرر في فيتنام وكوبا أصبحوا جزءًا من التحالف مع الشعب الفلسطيني. هذه السردية ما زالت مغيّبة في تاريخ الحركات الأمريكية في الستينيات، والتي تتطلب منا أن نعيد تلك السرديات المتعلقة بفلسطين، ومقاومة السرديات الصهيونية والاستعمارية التي تحاول طمسها. ولا بد من التأكيد هنا على مركزية دور الشعب الفيتنامي في إعلان تضامنه مع فلسطين، ومعه الشعوب المساندة لحركات التحرر في فيتنام وكوبا التي انضمت إلى القوى المتحالفة مع الشعب الفلسطيني.

في الجزائر أيضًا، ساند الفلسطينيون والجزائريون بعضهم بعضًا خلال حرب تحرير الجزائر. أذكر مثلاً أن مدرستي الابتدائية في نابلس كانت تحمل اسم المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد، وكنا ننشد النشيد الوطني الجزائري في مدراسنا خلال تلك الفترة.

يتعمق ذلك أكثر مع النشاطات الفلسطينية كحركات ثورية مقاومة، فقد ساعدت الكثير من الشعوب الأخرى الفلسطينيين، ودربوهم، سواء من إيران أو لبنان أو غواتيمالا، وغيرها من الشعوب المقهورة في العالم.

لم تكن الدول الإسلامية معزولة عن التضامن مع فلسطين خلال تلك الفترة، عكس ما يروج له البعض أحيانً. وخير مثال، مؤتمر الوحدة الإفريقية، وحركة عدم الانحياز، ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرها من المنظمات الإسلامية، أو التي تضم دولًا إسلامية ساندت الشعب الفلسطيني في مسيرته النضالية.