فرح برقاوي، ابنة زينب الغنيمي المحاصرة تحت العدوان تكتب لوطن .. أمي على قيد الحياة، وعلى قيد بصيصٍ من الأمل

بالعربي: تواصلت مع أمي زينب الغنيمي اليوم صباحًا، وهي ومن معها مازالوا على قيد الحياة والأمل، ولو كان هذا الأمل ضئيلًا مختنقًا. تحدّثنا في مكالمة دولية، حيث لا وجود للإنترنت في مدينة غزّة وشمالها المحاصرين. الوضع صعب جدًا جدًا.

قالت لي الحمد لله أنهم قد تمكّنوا منذ يومين من الخروج من عمارتها وشارعها هي ومن معها وجميع جيرانها، حيث كانت الاشتباكات قريبة جدًا منهم (حي النصر وليس ببعيد عن منطقة الشفاء)، واليوم قد وصلت الدبابات وتمركزات القناصين الإسرائيليين بالفعل تحت العمارة التي كانت تقطنها، ولو لم يخرجوا لكانوا جميعهم اليوم شهداءً أو مفقودين. أمّي ما تزال في مدينتها غزّة، أي في ما يسمّونه الآن بالشمال، وهي في مكان "آمن" نسبيًا، ولكن ليس هناك أيّ مكان آمن بشكلٍ فعليّ في مدينة غزّة وشمالها المحاصرين، ولا حتى جنوبًا.

أما الطريق الآمن الذي يسألني الجميع عنه ويدعونني لإقناعها ومن هم معها بأن يسلكونه اليوم قبل الغد، فهو ليس آمنًا كما تعتقدون. الطريقة البريّة للمشي مفتوحة لمدة 3 ساعات فقط، ويجب عليهم المشي السريع أو الهرولة والركض ليتمكنوا من قطع المسافة، عدا عن الانتظار صباحًا في طوابير الدور قبل أن تُفتح الطريق.
حين سألت ماما إن كان بإمكانها أن تحاول الخروج، أجابتني مستنكرة "كيف يا ماما؟ هو أنا بقدر في عمري هادا، والناس اللي معي، نجري هيك؟ كنت رح أتزحلق وأنا بطلع من البيت بكياس الزبالة، وبالعافية عرفنا نوصل مكاننا. ولو ما وصلناش في الوقت المحدد (4 مساءً)، الجيش الإسرائيلي بيبدأوا يطخوا ويقصفوا من الساعة (4 وخمس دقائق)".

أمي في السبعين من عمرها، معها أشخاص أكبر منها وآخرون أصغر، ومعهم أطفالٌ كثر، كيف بإمكانهم أن يركضوا وأن يلاحقوا الأمل بالنجاة هكذا؟ والدنيا تمطر اليوم على غزّة؟ والريح تهزّ البيوت المقصوفة والركام هزًّا؟ والشوارع المخربة تتحول إلى سيولٍ من طين؟ عدا عن عدم تمكّنهم من حمل أشياء كثيرة، وحتى وإن حملوا، يمكن للجنود الإسرائيليين على الحواجز أن يطلبوا منهم ترك ما يحملون والاستمرار دون أي شيء.

أما أكثر ما تحدّثت عنه ماما خلال المكالمة فكان الماء ونقصه، سواء للشرب أو الاستخدام اليومي، وعن إصابة بعض من معها بالتهابات وأمراض بسبب نقص الماء، حتى أن البعض يعجزون عن الدخول للحمام لكثرة الجفاف في أحشائهم ومثاناتهم.

وقفت أمّي ليومين كاملين على قدميها، ذات الوقت الذي انقطعت فيه رسائلها اليومية عنكم، في محاولة تدبير المياه، سواءً للشرب أو لأغراض النظافة الشخصية والحمام والطبخ. تقف على رجليها وتبحث وتنادي عمن في الحارة التي لجأت إليها ليمدّوا لهم المياه من خلال أنابيب ضيّقة جدًا وضعيفة. تدفع الكثير من أجل جالون ماء إضافي، ويحاولون جميعًا ترشيد الاستهلاك، فيستخدمون الحمام طيلة اليوم جميعًا دون سكب المياه على الفضلات، حتى نهاية اليوم فيسكبون الماء مرّةً واحدة رغبةً في النظافة وتفاديًا لحدوث أي مشاكل صحيّة إضافية. لكنها لا تعرف إن كانت الأنابيب البلاستيكية الموصّلة بصعوبة، إن كانت ستستمر بالوصول إليهم عبر الحارات، وإن كان سيكون هناك ماءٌ يكفي للأيام القادمة.

بعد أن استمعت لكل هذا، أقول لكم بأنها على قيد الحياة، وعلى قيد بصيصٍ من الأمل. لأنها أمّي التي لا أعرفها دون أمل. لكنني حقًا لا أعرف كيف لهذا الأمل الضعيف أن يحتمل كلّ هذا الذلّ، هذا اليأس، وهذا الألم.