سحب القوات الروسية.. تفاهمات خلف الكواليس

بالعربي- كتب رائد دباب: 

لو عدنا إلى العام الماضي، أي ما سبق دخول روسيا على خط الأزمة في سوريا، نجد أن شبكة القيادة الأوروبية قد نشرت حينها دراسة تحذر فيها من انزلاق في حرب مسلحة بين روسيا والحلف الأطلسي، بسبب مخاطر المناورات العسكرية الاستفزازية المتبادلة، والتي زادت وتيرتها منذ الأزمة الأوكرانية.

وقد سجلت الشبكة 66 "حادثة استفزازية" وقعت بين مارس 2014 ومارس 2015، والتي تسببت روسيا في معظمها، منها 50 حادثا صنفت بأنها "قريبة من الروتينية"، ضمت ذكر حادث مرور طائرة عسكرية روسية على بعد 50 كيلومترا قبالة ساحل كاليفورنيا، و13 حادثا وصف "بالخطير مع خطر التصعيد"، تم ذكر - في القائمة - تحليق مقاتلة روسية فوق سفينة حربية أمريكية في البحر الأسود، أما الفئة الثالثة فقد سجلت 3 حوادث "عالية الخطورة"، من بينها حادثة الاصطدام الوشيك بين مقاتلات حربية روسية وطائرة ركاب مدنية كانت قادمة من كوبنهاجن بالدنمارك نحو السويد.

كل هذا جاء في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لازال يفكر في إعادة مجد الاتحاد السوفيتي حتى وإن كلف ذلك حربا مدمرة على مستوى العالم.. فكل الأمور تغيرت ولم تعد روسيا هي نفسها خلال قصف الناتو لجمهورية يوغوسلافيا خلال حرب كوسوفو في مارس عام 1999.

وقد تأكد الأمريكان من جدية الدب الروسي حين حذر رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف من شبح حرب دائمة أو حرب عالمية ثالثة إذا فشلت المفاوضات الرامية لإنهاء الصراع في سوريا، محذراً من أية عمليات برية تنفذها قوات أمريكية وعربية. فيما صرح مسؤولون روس أن روسيا ستعتبر أي عمل بري في سوريا تدخلاً عسكرياً مباشراً.

ذلك لأن ميدفيديف يعرف جيدا كيف يفكر بوتين، ومدى أهمية سوريا استراتيجيا لروسيا.. فهي المنفذ الوحيد المتبقى لها على البحر المتوسط وقبالة أوروبا.. فالناتو استغل الضعف الروسي في التمدد نحو روسيا وكان آخرها في أوكرانيا، ناهيك عن الدرع الصاروخية التي لطالما لوحت بها الولايات المتحدة الأمريكية اختبارا لمدى قدرة ردود الفعل الروسية..

ولأن بوتين رجل الـ (لوبيانكا)، (مقر المخابرات) في قلب العاصمة موسكو، وخدم في ألمانيا الشرقية أيضا. ولأنه لازال متمسكا بقوله "إن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق هو أكبر الكوارث الجيوسياسية في القرن العشرين". ولان لديه علاقة بوزير الخارجية الامريكية الأسبق هنري كيسنجر منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. حين كان نائبا لعمدة سان بطرسبورغ..

كل هذه الخصوصيات جعلت من الرجل أن يعرف الغرب جيدا، وكما يقال أن يتحدث بسذاجة ويفكر بدقة.. بالضبط كالرياضة التي يحبها (الجودو) والمبنية على فكرة أن نقطة قوتك مبنية على نقاط ضعف العدو.

وهكذا كان حاله في سوريا، دخل بوتين المعترك لإعادة الأمور إلى نصابها وعدم السماح لأمريكا وحلفائها في المنطقة كتركيا والسعودية من إعادة سيناريو العراق وليبيا.. مستفيدا من تمرد حلفاء أمريكا في فرض أجندتهم على الغرب.

باغت بوتين أمريكا بدخوله الجاد على خط الأزمة السورية وجاء بأسلحة ومنظومات صواريخ وكأنه على أعتاب حرب عالمية ثالثة.. مستفيدا من تشرذم الحلفاء وتخبطهم وتباين أهدافهم.. فتركيا وقطر يدعمون الإخوان والسعودية تريد التكفيريين.. وتركيا تقصف الأكراد بينما تدعمهم أمريكا في حربهم ضد "داعش" والسعودية تُفشل المفاوضات وتدعم "جيش الاسلام" المتحالفة مع "النصرة".. ووصلت التصرفات الأحادية التي أحرجت أمريكا إلى درجة جعل من أوباما الذي يريد أن يكون بديلا لكندي في الذاكرة الأمريكية، يصرح علنا أن "بعض حلفاء واشنطن الخليجيين يتطلعون إلى جر الولايات المتحدة إلى صراعات طائفية طاحنة لا مصلحة لها بها" وأن مصالح بلاده تقتضي "إخراج الولايات المتحدة من الصراعات الدموية في الشرق الأوسط حتى يتسنى لها التركيز بصورة أكبر على أجزاء أخرى مثل آسيا وأميركا اللاتينية".. والأهم من كل هذا اعترافه في مقابلة موسّعة مع الصحافي المعروف Jeffrey Goldberg، نشرتها مجلة "ذي أتلانتيك" The Atlantic الأمريكية، بأن "أصدقاء وحلفاء بلاده خيبوا آماله، بدء من السعودية الراعية الأولى للتطرف والإرهاب، مرورا بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الفاشل والديكتاتوري، وصولا إلى رئيس حكومة "إسرائيل" بنيامين نتنياهو العاجز عن التوصل إلى حل الدولتين".

مجموع هذه الأمور تفسر تغيير اللغة الأمريكية حيال أوكرانيا حين طالبت كييف باحترام اتفاق فيينا بشأن حماية البعثات الدبلوماسية، بعد الاحتجاجات التي جرت مؤخرا بالقرب من مبان تابعة للبعثة الدبلوماسية الروسية.. وتفسر أضا زيارة جون كيري إى الرياض والضغط عليها في ملفي سوريا واليمن.. حيث كانت هنالك تسريبات تحدثت من تلويح أمريكا في سحب دعمها العسكري للسعودية في حربها ضد اليمن... ولذلك نرى أن التقارب الأمريكي الروسي كله ينصب في لجم مخاطر"داعش" التي تمددت لتشمل شمال أفريقيا.

من هنا نقول لكل من يريد أن يغطي عجزه بالترويج إلى أن الروس قد سحبوا أيديهم من سوريا، إن روسيا قدمت هذه التنازلات مقابل الالتزام الأمريكي في تهدئة الأمور في أوكرانيا والضغط على كييف.. ومن جانب آخر سحب البساط من الأطماع التركية السعودية في إسقاط الحكومة الشرعية السورية.. لأن بقاءها سوف يوفر الأرضية للتكفيريين في تهديدهم للاقتصاديات الغربية المتهاوية.. ورسالة روسيا واضحة جدا، مفادها نحن على أهبة الاستعداد وقواعدنا قائمة في سوريا، وإن عدتم عدنا..