رشيد وأبو سلمى وفيروز.. ثالوث "النكبة" الشعري – الغنائي

بالعربي - سعيد أبو معلا: يتشاطر المستمعون العرب أغلب صباحاتهم صوت فيروز، وغالباً ما يرددون معها أغنيتها الشهيرة "سنرجع يوماً" والتي تقول في مطلعها: "سنرجع يومًا إلى حيِّنا.. ونغرق في دافئات المنى، سنرجع مهما يمر الزمان..وتنأي المسافات ما بيننا..سنرجع خبرني العندليب..غداة التقينا على منحنى".

غير أن معظم هؤلاء المستمعين الطربيين على صوت فيروز يُسقطون على هذه الأغنية أحلامهم وأمانيهم الخاصة من دون أن يدركوا أن كاتب أشعار هذه الأغنية الشجية هو الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، والرجوع والعودة فيها عنت عودة الفلسطيني إلى أرضه التي هُجّر منها عام 1948.

إلا أن بقاء القصيدة من خلال الأغنية التي غنتها فيروز عام 1957 يعد دليلاً إيجابياً على القدرة العالية في الشعر الفلسطيني الذي تحدث عن "النكبة" في أن يؤسس لعلاقة إنسانية مفتوحة عبر أبياتها التي تحكي الهم الفلسطيني، وكذلك أحلام البشر وأمانيهم مهما اختلفت أماكن سكناهم ومهما كانت معاناتهم.

كلمات الشاعر رشيد، المولود عام 1927 في حي الزيتون، شرقي مدينة غزة، والمقيم في القاهرة جاءت من ديوانه الأول المعنون "مع الغرباء"، الذي صدر عام 1954 نقرأ منها أيضا: "بأن البلابل لما تزل..هناك تعيش بأشعارنا..وما زال بين تلال الحنين..وناس الحنين مكان لنا.. فيا قلب كم شردتنا الرياح.. تعال سنرجع هيا بنا".

أناشيد العودة
وكان قد صدر عام 2007 للشاعر هارون رشيد ديوان شعري باللغتين العربية والإنجليزية بعنوان "أناشيد العودة" من ترجمة وتحرير كرمة سامي في 157 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على مجموعة من القصائد مثل "مع الغرباء"، "فلسطيني"، "إلى نازحة"، "جذور"، "عيناه نجمتان"، "إننا عائدون"، و"صرخة لاجىء"
ورشيد الشاعر القومي والعامل حالياً في السلك الدبلوماسي الفلسطيني في القاهرة، وهب شعره للدفاع عن وطنه منذ بداياته وحتى اللحظة، وأصبحت قصيدة “إِنَّنَا لَعَائِدُونْ” التي أصبحت بمثابة النشيد القومي الفلسطيني، وجاء في مطلعها:
“عَائِدُونَ عَائِدُونَ إِنَّنَا لَعَائِدُونَ
فَالحُدودُ لَنْ تَكُونْ وَالْقِلَاعُ وَالْحُصُونْ
فَاصْرُخُوا يَا نَازِحُونْ
إِنَّنَا لَعَائِدُونْ
عَائِدُونَ لِلدِّيَارْ لِلسُّهُولِ لِلْجِبَالْ
تَحْتَ أَعْلَامِ الْفَخَارْ وَالْجِهَادِ وَالنِّضَالْ
بِالدِّمَاء وَالْفِدَاء وَالإِخَاءِ وَالْوَفَاءْ
إِنَّنَا لَعَائِدُونْ “
ويلقب ابن النكبة رشيد بـ "شاعر العودة"، لكونه من أكثر الشعراء الفلسطينيين استعمالاً لمفردات العودة، العائد، العائدون.
ولم تقتصر علاقة هارون رشيد بفيروز بأغنية "سنرجع يوماً" حيث غنت له المطربة اللبنانية قصيدة "مَعَ الغُرَبَاء" التي كتبها عن اللاجئين، وتعتبر من القصائد والأغاني المنسية بالمقارنة مع "سنرجع يوماً"، والتي يقول فيها:
أَتَتْ ليلى لوالِدها وفي أحداقِها أَلَمُ
وفي أحشائِها نَارٌ مِنَ الأشواقِ تضطَّرمُ
وقد غامَتْ بعينيها طُيوفٌ هزَّها سَقمُ
وقد نامَ البهيج أسىً فلا صوتٌ ولا نغمُ
أتتْ ليلى لوالِدها وقد أَهوى بهِ الهَرَمُ
وقالتْ وهيَ مِن لهفٍ بها الآلامُ تحتدمُ
لماذا نحنُ يا أبتي لماذا نحنُ أغرابُ
أليسَ لنا بهذا الكون أصحابٌ وأحبابُ
أليسَ لنا أخلاَّءُ أليس لنا أحبَّاءُ
لماذا نحنُ يا أبتي لماذا نحنُ أغرابُ؟!

وجاء في كتاب "أناشيد العودة" أن هارون يشكل علامة بارزة في أدب النكبة، وهو من الرواد الأوائل في هذا المضمار، وهو يمثل التيار الواقعي في الشعر العربي الفلسطيني.
وأرّخ رشيد في أشعاره لمراحل تحول القضية الفلسطينية منذ أن وعيها بداية من مظاهرات الثورة الأولى عام 1936م، مروراً بالنكبة والانتفاضات، وصولاً إلى الاعتداءات الحالية على هوية القدس العروبية.

وذكر كتاب "أناشيد العودة": "أبحر رشيد بشعره في رحلة مستمرة إلى اليوم، وعلى صفحة البحر الفلسطيني نسج عذابات اليتم والقهر والتشرد بكل جوارحه، لكنه ربان ماهر يسبح في قصائد الرقة والحنين حيث نجد النوارس البيضاء، ومفردات الأمل من المستقبل، وأناشيد الغضب والكفاح، حيث يعبر عن نبض الأجيال المؤمنة بالنصر الآت لا محالة.

ويمتاز شعر رشيد بحسب الكتاب بـ"الرومانسية الوطنية التي تغنت بها الأجيال العربية من المحيط إلى الخليج، لما فيها من قدرة رائعة على استنهاض المشاعر والهمم، ومقت للغزاة، وعشق للحرية والحياة بشرف وكرامة".
أبو سلمى وسنعود

ويعتبر أستاذ الأدب العربي الحديث عادل الأسطة، والمحاضر في جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس، الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) (1909-1980) بالمثال الأفضل على الشعراء الذين كتبوا عن "النكبة"، وذلك في حال قصر تعريف أدب "النكبة"، وتحديداً الشعر، على الفترة الواقعة ما بين 1948_1967.

ويعتبر الأسطة أن ما تلا هذه الفترة من شعر أُطلقت عليه تسميات عديدة، كـ"أدب حزيران"، و"أدب المقاومة" و"أدب الثورة"، و"أدب الانتفاضة" و"أدب أوسلو "..الخ.

ويضيف الأسطة: "أتوقف أمام أشعاره (أبو سلمى) في تدريسي للشعر الفلسطيني والنكبة في الجامعة، وتحديداً قصيدته (سنعود) من مجموعته (المشرد)، والتي يقول فيها:
خلعـتُ علـى ملاعبهـا شبـابـي وأحلامـي علـى خُضـرِ الـروابـي
ولي فـي غوطتيْـكِ هـوىً قديـمٌ تغلـغـلَ فـــي أمـانــيَّ الـعــذابِ
أتنكرُنـي دمشـقُ وكـانَ عهـدي بـــهـــا ألا تُـــلَـــوِّحَ بــالــســرابِ
أتنكرُنـي وفــي قلـبـي سنـاهـا وأعــرافُ العـروبـةِ فــي إهـابـي
ولــي فــي كُــلِّ مُنعـطـفٍ لـقـاءٌ مـوشَّــى بـالـسـلامِ وبـالـعـتـابِ
فلسطينُ الحبيبةُ كيف أَنسـى؟ وفــي عَيـنـيَّ أطـيـافُ الـعَــذابِ
أُطهـرُ باسـمـكِ الدنـيـا ولــو لَــم يُبَرِّح بي الهوى لكتمـتُ مـا بـي
تَــمُــرُّ قــوافــلَ الأيــــامِ تَــــروي مُـؤامــرةَ الأعـــادي والـصِّـحــابِ
فلسطيـن الحبيـبـةُ كـيـف أحـيـا بعيـداً عــن سهـولـك والهـضـابِ
تنـاديـنـي الـسـفـوح مخـضـبـاتٍ وفـــي الآفـــاق آثـــار الـخـضـابِ
تنـاديـنـي الـشـواطـئ بـاكـيـاتٍ وفي سمع الزمان صدى انتحابِ
تنـاديـنـي الـجــداول شــــارداتٍ تـسـيــرُ غـريـبــةً دون اغــتــرابِ
ويـسـألـنـي الــرفــاق ألا لــقــاءٌ وهـل مــن عــودةٍ بـعـدَ الغـيـابِ
غـداً سنعـودُ والأجـيـالُ تصـغـي إلـى وقــعِ الخـطـا عـنـد الإيــابِ

وتعتبر قصيدة "سنعود" درة قصائد أبو سلمى ومن أكثر القصائد التي احتفي بها، وقد عارضها الكثير من الشعراء ومازال لها دوي حتى الآن رغم بساطتها ووضوحها وقد بدأها بمخاطبة دمشق التي أحبها وأمضى فيها مطلع شبابه.
وكانت فيروز قد غنت من أشعار أبو سلمى الملقب "بشاعر القضية" و"زيتونة فلسطين" حيث غنت قصيدة "داري" والتي جاء فيها:
“هل تسألين النجم عن داري
وأين أحبابي وسماري
داري التي أغفت على ربوة
حالمة بالمجد والغار
تفتح الزهر على خدها
فعطرت أيام آذار
ضحية الحسن.. وكم فتنة
تجني على حسناء معطار
جار عليها مدعٍّ بالهوى
جور عدو في الحمى ضار
والشعب كم من حاكم باسمه
يظلمه ظلم سنمار
في عينه دمعة باك وفي
راحته سكين جزار”
والقصيدة في 30 بيتًا من البحر السريع وغنت منها فيروز 16 بيتاً، وفيها يختزل جمال فلسطين ومدى تعلقه فيها، و"داري" هنا لا تعني دار الشاعر وإنما قصد بها فلسطين كلها بكل مفرداتها الجميلة وحياة أهلها قبل "النكبة".
تراجع شعر النكبة!

ويرى الأسطة أن توالي الهزائم واستمرار أثر "النكبة" يضع كل ما يكتب من شعر وأدب تحت عنوان "أدب النكبة"، فهي لم تنته حتى اللحظة، ويقول: “ما زال اللاجئون في العالم العربي يعيشون آثارها، وبالتالي فإن ما يُكتب عن واقعهم هو استمرار لشعر النكبة، حتى وإن اختلفت المسميات".

ويرى الأسطة أن شعر الأرض المحتلة، وأشعار محمود درويش (1941-2008 ) بالتحديد غطت على الشعر الذي كُتب من قبل، ولا يذكر الشعر الفلسطيني، بل ولا يُدرس إلا في الجامعات والمناهج المدرسية، وفي الأخيرة تختار نماذج لشعراء كثر، ولكن نصاً واحداً لشاعر قد لا يرسخ اسمه، فسرعان ما يُنسى.

ويشير إلى قضية تراجع شعر النكبة بفعل مجموعة من التحولات قائلاً إن "تغني الفلسطينيون بالشعر يكاد يقتصر على أشعار محمود درويش، وهناك عدة عوامل تسهم في هذا منها طبيعة شعره، وشخصيته، والمؤسسة الفلسطينية التي اهتمت به أكثر من اهتمامها بغيره، والدليل على ذلك المؤسسة التي حملت اسمه ومتحفه، أما الشعراء الأخرون فقد تمر ذكرى وفاتهم ولا يحظون بأمسية شعرية".

عن (الأناضول)