الأمس والغد: الجزائر وإيران

بالعربي: تناهت إلى سمعي تعليقات تناولت بالغمز واللمز موقف الجزائر من إيران، وزعم بعضهم أن لها دورا في دعم حوثيي اليمن، لمجرد أنها لم تدعم عاصفة الحزم بالأسلوب الذي يرضي البعض، وراح البعض الآخر يستحلب استنتاجات مضحكة من رفض الجزائر، في حدود ما أعرف، المشاركة بوجود فعلي ومساهمة عملية  في مهزلة تكوين قوات عربية مشتركة تداعت لها بعض الدول بتبريرات مضحكة ومؤسفة، لم تتمكن من إخفاء الأهداف الحقيقية، المالية والسياسية، لقوات ردع جديدة، لن تكون أحسن من سابقتها في السبعينات.

والارتياح الذي يبدو أن طهران تحسّ به تجاه الجزائر لا يختلف كثيرا عن تقبلها الإيجابي لموقف الجزائر إثر قيام الثورة الإيرانية، وهو ما يفرض علي أن أسترجع ما عرفناه آنذاك، وقد كنت يومها مستشارا لرئيس الجمهورية.
كانت الجزائر قد استجابت لنداء صدام حسين، والذي أدى إلى احتضان العاصمة الجزائرية للقاء بين الرئيس العراقي وشاه إيران، محمد رضا بهلوي، بوساطة هواري بو مدين.
ووُقعت الاتفاقية الشهيرة التي حققت الهدوء على حدود البلدين، وجلبتْ سخط الأكراد على الجزائر وعلى قيادتها، ثم مزقها صدام أمام كاميرات التلفزة فيما بعد، ولم تعتب الجزائر على أحد، ولا وجّهت لوما لأحد، لأنها تصرفت بما أملاه عليها الضمير العربي الإسلامي.
لكن شاه إيران كان من أهم من شجعوا السادات على القيام بزيارته المشؤومة للقدس المُحتلّة، ويقول هيكل (حرب الخليج ص 105) بأن المستجدات الطارئة في الشرق الأوسط (في السبعينيات) كان يُمكن أن تصنع محورا جديدا يضم طهران (قبل الثورة) والقاهرة وتل أبيب، ولم يكن الشاه بأي حال من الأحوال صديقا لمصر، ثم يقول (خريف الغضب ص 374) بأنه : “طوال كل المعارك مع إسرائيل، كان هوَ المُصدّر الرئيس للبترول الذي تحركت به كل دبابات إيران على الأرض، وحلقت به طائراتها في الجو، ومَخرت به قطع أسطولها عباب البحرين الأبيض والأحمر”.
وفي المرحلة التي شهدت تداعيات كامب دافيد، وما نتج عنها من تجميد لعضوية مصر في الجامعة العربية بعد نقل مقرها إلى تونس، سقط نظام الشاه، وعاد آية الله الخميني إلى طهران في فبراير 1979، وأدرك العالم كله أن ما حدث ستكون له نتائجه المستقبلية بعيدة المدى وواسعة التأثير.
وكان واضحا أن الشعب الإيراني قد لفظ الشاه نهائيا، وكان احتضان مصر السادات له كفيلا بتردي العلاقات بينها وبين شعب من أكبر شعوب المنطقة وبلد من أهم بلدان العالم الإسلامي.
وأدى تهافت تبرير الرئيس المصري لموقفه بأنه ردّ على دعم الشاه لمصر، إلى تصور أسباب أخرى لذلك الموقف المسرحيّ، وفي مقدمتها ضغوط واشنطون التي تهربت من استقبال الشاه، ووصل سوء الظن بالسادات إلى درجة ادّعاء البعض بأن لعابه سال عندما عرف حجم أرصدة الشاه في البنوك الأمريكية، وهكذا استقبلت القاهرة رضا بهلوي في مارس 1979، حيث ظل هناك إلى أن توفي في يوليو 1980، فأحيطت جنازته بتظاهرة رسمية حُمل فيها التابوت على عربة مدفع كما يحدث مع كبار القادة، وأشرف الرئيس المصري بنفسه على دفنه في مراقد الأسرة المالكة المصرية بمسجد الرفاعي.
وجاء الموقف الجزائري من الثورة الإيرانية بعد فترة من الصمت النسبي، نتيجة للظروف التي مرت بها الجزائر إثر مرض الرئيس هواري بو مدبن الفجائي ثم وفاته في 28 ديسمبر 1978، وكان مما قيل يومها أن الأمام الخميني كان يأمل في اللجوء السياسي إلى الجزائر، ولم يتلق مباركة لذلك نتيجة للوضعية التي عرفتها البلاد.
وبينما رحّبت الجزائر بقيام الثورة الإيرانية أثارت الثورة قلقا شديدا لدى السادات، وكشفت موقف أمريكا المتخاذل التي ضحّت بالشاه تجاه أهم حلفائها في الشرق الأوسط، وأتذكر هنا أن بو مدين طلب من مبعوثه إلى هافانا آنذاك، عبد المجيد أعلاهم، أن يقول لفيديل كاسترو عبارة أكدت رأيه في المواقف الأمريكية، وكانت العبارة تقول: أمريكا لن تحرك أصبعا واحدا لإنقاذ الشاه، لأن دوره انتهى.
وكان واضحا أن موقف واشنطون سيُضعف من الخط الذي رسمه السادات لسياسته الخارجية، وهو خط الالتزام الكامل بالسياسة الأمريكية، لذلك، سارع بإعلان هجومه على الثورة، وأوحى إلى وسائل إعلامه، بإبراز قيامها بإعدام الآلاف من الإيرانيين !!، والمقصود بهم أساسا رجال “السافاك”، التي أعْدِم قائدها نعمة الله ناصري في 16 فبراير 1979، وهو للعلم واحد من أركان نادي “السفاري” الذي كونه مدير المخابرات الفرنسية “الكونت دو مارانش” في منتصف السبعينيات، وكان من أعضائه المصريّ أشرف مروان ونظيره المغربيّ أحمد الدليمي، وكنتُ تناولت التفاصيل في حديث سابق، يجده القراء في وثائق “رأي اليوم”.
وحاول السادات تشويه الثورة الوطنية في إيران والتشكيك في مرجعية إسلامها، وسخّر الأزهر في التبرير الديني لسياسته، وصدرت التعليمات إلى المؤسسة الدينية، التي تغيّر موقفها 180 درجة من الحض على قتال إسرائيل إلى إصدار الفتاوى تبريرا للصلح معها، استنادا “مبتورا” للآية الكريمة: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” (سورة الأنفال– 61) وهكذا دخل الأزهر في معركة عداء مع الخميني لا تبررها إلا إرادة السلطان، ثم استنفرت قضية سلمان رشدي فأدينت فتوى الخميني في قضيته بعد أن شوه مضمونها وحيثياتها.
وبدأنا نقرأ كلاما لرجال دين في مصر يدافعون ضمنيا عن تجاوزات سلمان رشدي، طبقا للتعليمات بالطبع، تعريضا بالمرجع الشيعي في إيران، ويتحدثون عن “حق المؤلف في الخيال وفي الإبداع، وأن الخميني رجل ضيق الأفق ومتخلف عن العصر (..) وكان هذا يحدث في مصر، بينما يُصدرُ قاضٍ بريطانيٌّ حكما في قضية سلمان رشدي يُطالب بقانون خاص يحمي الأديان من الإهانة (هيكل ص 111) “.
ولم يكن موقف قيادات الأزهر أمرا جديدا، فعندما أنتجت أمريكا في الخمسينيات مشروب “البيبسي كولا” لمنافسة “الكوكا كولا”، خرجت إشاعات، نردد مؤخرا أنها لم تكن مجرد إشاعات، تقول أن في البيبسي مادة مأخوذة من معدة الخنازير، فتنادى الناس لمقاطعة المشروب.
وتتصل الشركة بمفتي الجمهورية، الذي أصدر فتوى تؤكد أن البيبسي مشروب حلال، رغم أنه لم يكن يملك إمكانية إجراء تحليل معملي للمشروب، ولم يُعرف ما إذا كانت الفتوى تطوّعية أو مدفوعة الأجر، لكن المصريين لم يفوتوا فرصة التنكيت، فأطلقوا على المفتي اسم الشيخ (فلان) كولا.
وفي السبعينيات راحت قيادات الأزهر، الذي فقد مرجعيته العالمية وبريقه الإقليمي وتأثيره الدولي وتحول إلى منبر ديني يضم علماء السلطان، راحت تواصل حملتها ضد الخميني (..) ثم أرسلت وزارة الأوقاف (أو تلقت الأمر بذلك) بعثة من الوزارة إلى لندن، “وجيء” لها بسلمان رشدي يعلن توبته وعودته إلى الإسلام، وطبلت الصحف المصرية للأمر وزمرت له، مع التعريض بالممارسات الدينية في طهران.
وهكذا، كان موقف كل من مصر والجزائر متناقضا فيما يتعلق بإيران، حيث أن الجزائر كانت، على ما أعرف، البلد العربي الوحيد الذي دعم حق طهران في ممارسة النشاط النووي للأهداف السلمية، في حين ضاع المشروع المصري في “الضبعة”، وهي مرادف لمنطقة “عين وسّارة” عندنا، ويعملُ المترفون هناك على تحويلها إلى منتجع سياحي.
وربما كان مما يثير الانتباه أن مهندس الدور الجديد لمصر ضد الثورة الإيرانية، زبجنيو بريجينسكي، كان هو الذي كلف بتمثيل الولايات المتحدة في احتفالات الجزائر بثورة نوفمبر عام 1979، وهي أول احتفالات أقيمت في عهد الشاذلي بن جديد، وعرفت البلاد يومها استعراضا عسكريا رائعا، ما زال شعبنا يتذكره باعتزاز ويحلم بعودته.
ولعل المستشار الأمريكي كان يحاول آنذاك تلمس الاتجاه المستقبلي لتعامل الجزائر مع إيران، وربما كان يتصور أن الوضع سيكون في جزائر ما بعد هواري بو مدين ما أصبح عليه الوضع في مصر بعد جمال عبد الناصر، ومن المؤكد أن أفكارا في هذا الاتجاه نقلت إلى النظام المصري، وربما لأنظمة أخرى شقيقة أو صديقة، هنا وهناك.
ولعلي أذكر هنا بأن بريجنسكي هو الذي وقف وراء مبدأ كارتر الذي أعلنه الرئيس الأمريكي أمام الكونغرس في 23 يناير 1980 والذي يقول : إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف تعتبر في نظر واشنطون كهجوم على المصالح الحيوية لها، وسوف يتم ردّه بكل الوسائل بما فيها القوة العسكرية، وهكذا ينضم مبدأ “كارتر” إلى مبدأ “مونرو” الذي يتعلق بنصف الكرة الغربي، والذي طور روزفلت فكرته فيما بعد، واستعمله لتأكيد نفوذ بلاده على الأمريكيتين، وهو نفس ما تحلم به فرنسا دائما بالنسبة لإفريقيا، وكان من بين خلفيات ترحيب ساركوزي برئاسة مشتركة مع حسني مبارك لمؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط (باريس- يوليو 2008)، الذي كان ظاهره تفعيل مبادرة برشلونة التي انطلقت في 1995، وحقيقته تأهيل الدور الإسرائيلي في البحر الأبيض، وكان مما أجهض المشروعَ التعاملُ البارد للجزائر معه.
وتزايد فتور العلاقات بين النظام المصري والجزائري مع قيام الحرب العراقية الإيرانية، وعُرف فيما بعد أن السادات، بالأمر وللاستفادة، وضع كل ثقله وراء صدام، ولم تتردد الجزائر في تأكيد رفضها القاطع لأي موقف يمكن أن يُفهم منه أنه انحياز لأحد الطرفين.
وكان الأسلوب الذي درجنا عليه لبث الأفكار الجزائرية اللجوء إلى شبكة من الصحفيين الأصدقاء في العالم كله، أمكن نسجها تدريجيا منذ بداية السبعينيات، والعلاقات ببعض عناصرها يعود إلى مرحلة الثورة المسلحة أو ما بعد استرجاع الاستقلال، وتمت المحافظة عليها بالتواصل المنتظم والمكالمات الهاتفية والدعوات الدورية، وهكذا تم اختيار الأستاذ فؤاد مطر، الصحفي اللبناني القومي الشهير، ليسجل آراء الرئيس الجزائري حول العلاقات مع إيران لمجلة *المستقبل* في باريس، ونشر الحديث في ديسمبر 1979 في الصحافة الجزائرية.
وفي بداية الحديث، الذي أعددناه مع فؤاد بدقة من يزنزن الذهب والألماس، قال الشاذلي تعليقا على أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران، والذي قامت الجزائر بالدور الرئيسي في تحريرهم،: “دورنا في قضية الرهائن دور عادي جدا، نحن نمثلُ، ديبلوماسيا، المصالح الإيرانية في واشنطون، وهناك مشكل إنساني مطروح بين إيران وأمريكا، وكلا الطرفين يطلب منا المساهمة في حل القضية، فهل كان يُمكن أن نرفض ؟ نائب كاتب الدولة الأمريكي جاء إلى الجزائر وسلمنا ردّهم على شروط إيران، نقلنا الردّ الإيراني، فحمّلونا ردّا على الردّ، نقلناه للأمريكيين….. دور إنساني محض قام به أساسا سفراؤنا في البلدين”.
ويواصل قائلا: “أنا أقرأ ما يُنشر، لكن الجزائر ليست في حاجة لشهادة حسن سيرة وسلوك من أحد، وتدرك جيدا التزاماتها العربية والإسلامية والدولية (..و) منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب بين البلدين (العراق وإيران) قمتُ بإجراء اتصالات مع الرئيس العراقي والرئيس الإيراني وعدد من القادة العرب والمسلمين في محاولة لتطويق الأحداث قبل أن تتعقد الأمور، ولكنني لم ألمس استعدادا لدى الطرفين أو قبولا للمسعى (..و) الموقف، يقول الرئيس الجزائري، ألخصُهُ لك كما يلي:
أولا : بناء على طلب من الأشقاء (المقصود بهم العراقيين) قامت الجزائر بواجبها في 1975 من أجل أن يلتقي الطرفان لإيجاد حل للمشاكل التي كانت قائمة بينهما، ولم تحاول الجزائر أن تفرض رأيها بل كان الحوار الأساسي بين البلدين ثنائيا، وساهم الرئيس بو مدين في تقريب وجهات النظر (..) وتم بعد ذلك توقيع المعاهدة التي أودعت لدى الأمم المتحدة.
ثانيا : العلاقات التي تربطنا بالإخوة في كل من العراق وإيران هي علاقات الاحترام المتبادل والتقدير، ونحن لا ننسى مواقف الشعب العراقي النبيلة أثناء كفاحنا المسلح، ونؤمن بأن العراق هو عمق استراتيجي لخط المواجهة مع العدو الصهيوني، كما نؤمن بأن قوة العراق هي قوة للعرب، وأن حماية القوة العراقية هي حماية للأمة العربية (..لكننا) لا يمكن أن ننسى الوضعية التي نتجت عن قيام الثورة الإيرانية، والتي نقلت إيران من الصف المعادي للأمة العربية إلى الصف المتعاطف معها، وأنا أعرف أن هناك تناقضات في إيران، لكنني لا يُمكن أن أنسى أن العلم الفلسطيني يرفرف اليوم في طهران بدلا من العلم الإسرائيلي.
ثالثا : نحن ننتمي للأمة العربية وللعالم الإسلامي، والحضارة العربية الإسلامية بالنسبة لنا كل متكامل، وهي رصيد حضاري لا يمكن أن نعزل أحد مكوناته عن الأخرى، والعالم الإسلامي في أسيا وإفريقيا هو عمق طبيعي للعالم العربي، وكلاهما يُشكل كلا متكاملا في مواجهة التحديات الدولية (..)
رابعا : من هذا المنطلق لا نقبل إحياء النعراتِ التي أطفأها الإسلام، أو خلْق الأحقاد بين القوميات التي جمعتها الحضارة العربية الإسلامية، ومن هنا رفضْنا أن يتحول الصراع من نزاع بين بلدين إلى صراع بين قوميتين، بالإضافة إلى احتمال تدويل الصراع وحدوث تدخلات أجنبية (..و) الذي حدث يُِهمّنا، لأننا نؤمن بأن الذي ينزف الآن هو دمنا نحن كعرب وكمسلمين (..و) اتخذنا مواقفنا عن قناعة، ولا نعطي لأنفسنا دور القاضي، والمهم أن يتوقف النزيف العربي الإسلامي”.
ولقد كان الموقف الجزائري من أكثر المواقف قربا من الأمانة والنزاهة والروح العربية الإسلامية الحقيقية، رغم أن البعض من الأشقاء اعتبره يومها تأييدا “إجراميا” لطهران.