اليونان تتحدى ألمانيا: اليهود ليسوا أفضل منا!

بالعربي_كتب وسيم إبراهيم :  ايمانوليس غليسوس لن ينسى، ويقول لمن يسأله عن الإنكار الألماني: «لا يا سيدي، القضية لم تنته».

يمشي مثل قطعة من التاريخ، بقامته القصيرة والمحنية قليلاً، مع رأس كسا الشيب شعره الطويل وشاربه العريض.
النائب اليوناني يعرفه جميع زملائه الأوروبيين، فهو أكبرهم سناً، وعمره ناهز 93 عاماً، لكنه لا يزال مثل محارب إغريقي قادم من الأساطير. لديه ما يكفي من الأسباب ليقف في الخطوط الأمامية ضد رفض ألمانيا دفع تعويضات لليونان عن سنوات الاحتلال النازي.
كيف تضيع حقوق كبيرة كهذه، كما يعتبرها اليونانيون، في أوروبا التي تتباهى بمبدأ حكم القانون؟
سألت «السفير» غليسوس، خلال مؤتمر شرح فيه قضيته، فرد أن «المسألة باختصار أن الحكومة الألمانية ترفض أن تدفع ديوناً وتعويضات مستحقة»، قبل أن يقول «إنها مسألة أخلاقية في النهاية».
وبرغم كل الصخب الذي تحدثه أثينا، واصلت برلين التصرف بأقصى تجاهل ممكن. لم تعر اهتماماً لإعلان حكومة اليونان أنها قامت أخيراً بكل الحسابات اللازمة، وأن مجمل الدين الألماني يبلغ حوالي 305 مليارات دولار.
خرجت بعض التعليقات بالطبع، لكنها من طراز قول زيغمار غابريل، نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إن إثارة الموضوع من أصله «فكرة غبية». هذا الإنكار تتبناه ميركل أيضاً، لكن وزير ماليتها فولفانغ شوبل هو الأشد رفضاً لأي تحرك يفتح مجدداً صفحات ذلك الماضي المظلم.
خلال حديثه الى «السفير»، يتذكر غليسوس مواجهة مباشرة جمعته مع الصخرة الألمانية شوبل.
ويقول سارداً ما حدث: «السيد شوبل قال إن القضية انتهت. قلت له بوضوح: إذا ظننت أن القضية انتهت فهناك مشكلة. هل يمكنك يا سيد شوبل أن تقول لي متى وكيف انتهت؟». ويضيف «لم يجب أبداً. صمت ثم قال لي: يجب أن نترك الماضي في حاله وننظر إلى الأمام».
طبعاً هناك ردّ حمله غليسوس للوزير الألماني. يواصل سرده: «قلت له حسناً، لكن لماذا قررت ألمانيا أن تدفع تعويضات لأطفال يهود كان أهلهم ضحايا للنازيين، لقد تم تعويضهم وهم الآن يتلقون رواتب تقاعد، وليس هناك حد زمني لإنهاء ذلك، وليس معروفاً إن كان هذا سيستمر إلى الأبد، لكل سلالة الناجين اليهود. أليست هذه تعويضات. إذاً أخبرني يا سيد شوبل، هل هذا الماضي أم المستقبل».
حتى من يثيرون قضية التعويضات لا يجرؤون على هذه المقارنة، لكن لا أحد يمكنه المزايدة على العجوز غليسوس حين يتعلق الأمر بالنازيين. الرجل بطل وطني في اليونان، وما فعله محفور في ذاكرة شعبه قبل كتب التاريخ.
بعد شهر من دخول النازيين إلى أثينا، تسلق غليسوس، الذي لم يبلغ العشرين، مع زميله أبوستولس سانتاس إلى قلعة الاكروبولس، ليقوما بتمزيق العلم النازي المعلق فوق التلة المطلة على العاصمة. شجاعة الشابين شكلت إلهاماً رمزياً مدوياً، تناقله مقاومو الاحتلال النازي في أوروبا. تعرض الشاب للسجن والتعذيب، على يد النازيين وحلفائهم الايطاليين، وكذلك الحكومة اليونانية التي نصَّبها الاحتلال.
لاحقاً دخل الرجل إلى البرلمان اليوناني مراراً. وأخيراً، حين ترشح للانتخابات الأوروبية العام الماضي، حصل على نحو نصف مليون صوت جعلته المرشح الأكثر شعبية.
يعتبر أن القتال الذي يخوضه الآن، مع حزب «سيريزا» الذي ينتمي إليه، هو استكمال لمعركة تاريخية. يقول لمن يسأله إنه يريد أن يشاهد العدالة وهي تتحقق «بعد قتال دام مدى الحياة».
وبينما تنكر المانيا قضية التعويضات، تقول إن هناك معاهدات دولية تدعم موقفها.
لكن خبراء كثيرين، يعرفون القضية من ألفها إلى يائها، يقولون إن برلين تحسب للتداعيات.
تخشى أنها إذا عوَّضت اليونان فستشكل سابقة تفتح عليها باباً مغلقاً، وسيتقاطر عليها طالبو التعويضات بلا رحمة.
لكن هناك من يشير إلى جوانب لا تقال في المرافعة الألمانية. جرى حسم مسألة تعويضات الاحتلال النازي، في مؤتمر باريس في العام 1946، وباشرت ألمانيا وحلفاؤها دفع الديون للدول التي احتلتها.
ما تلقته اليونان ليس أكثر من فتات. لكن الدفع توقف تماماً في العام 1953، حين أقنعت الولايات المتحدة الجميع بالكف عن المطالبة بالتعويض. حجة واشنطن هي وجوب التعلم من التاريخ، لكون أحد أسباب شعبية هتلر وحزبه كانت التعويضات المالية الكبيرة التي دفعتها ألمانيا، بعد خسارة الحرب العالمية الأولى.
بعد هذه الضغوط قبلت اليونان، بين الدول التي خضعت للاحتلال، صرف النظر «مؤقتاً» عن التعويضات. الحل الذي تم تثبيته هو أنه يمكن المطالبة بالأموال مجدداً، لكن فقط حين توقع ألمانيا الغربية والشرقية «اتفاقية سلام». كان ذلك بمثابة جعل المسألة تصير منتهية الصلاحية، وتتبخر مع الوقت.
مرت سنوات الحرب الباردة ببطء. عاشت اليونان حرباً أهلية، ثم انقلاباً عسكرياً، قبل أن تعود ديموقراطيتها للعمل في السبعينيات. أخيراً حلت نهاية حقبة القطبين، وصارت ألمانيا الغربية والشرقية على مشارف كسر جدار برلين وتوقيع معاهدة إعادة التوحد. في هذه الأثناء، لم يغب عن دهاة السياسة الألمانية المأزق الذي سيعيد عليهم فتح قضية المطالبة بالتعويضات.
كان المستشار الألماني هيلموت كول، مع وزير خارجيته هانس ديتريش غينشر يقظين تماماً للمشكلة. فعلا كل ما يمكنهما لعدم تسمية معاهدة إعادة توحيد الألمانيتين «اتفاقية سلام». تكللت جهود السياسييْن المحنكيْن بالنجاح، وسميت المعاهدة اتفاقية «4+2» (الدول التي ربحت الحرب العالمية الثانية زائد الألمانيتين).
لم تذكر المعاهدة من قريب أو بعيد أنها «اتفاقية سلام»، ليغلق الباب أمام حجة قانونية لإعادة المطالبة بالتعويضات.
لكن حكومة ألمانيا عادت بعد خمس سنوات، في العام 1995، لتعتبر إعادة التوحيد «اتفاقية سلام».
نتيجة لذلك، سارع اليونانيون للمطالبة بعقد مباحثات لاسترداد حقوقهم. لكن برلين احتجت بأن المطالبة كان يجب أن تتم قبل خمس سنوات، معتبرة أن «صمت» اليونان كان بمثابة رضى وتنازل.
هكذا لم تتوقف الحكومات اليونانية عن إثارة القضية، لكن أياً منها لم تكن تتبناها بهذا الإصرار العلني كما تفعل حكومتها الجديدة الآن.
مجلة «الإيكونومست» خلصت إلى أن حكومة تتبنى قضية كهذه «ليس في رأسها حلٌ وسط».
رئيس الوزراء اليكسيس تسيبراس قال، موجزاً القضية، أمام البرلمان اليوناني «لا يمكنك الاستناد إلى الأخلاق فقط حينما تكون في مصلحتك».
حينما حاجج تسيبراس بأن بلاده بحاجة إلى شطب جزء كبير من ديونها الهائلة، ذكّر ألمانيا الرافضة بأنها تعارض مبدأ استفادت منه سابقاً. عملياً، هذا ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، حين قررت أميركا شطب جزء كبير من ديون ألمانيا الغربية، وإلزام الآخرين بذلك.
أرادت وقتها للدولة المنهارة أن تصير، بأسرع ما يمكن، محركاً لاقتصاد أوروبا. حجة اليونانيين واضحة: لولا شطب الديون، لما تحققت معجزة الاقتصاد الألماني، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
من ضمن التعويضات هناك حوالي 10 مليارات دولار، هي مبلغ يكافئ ديون القرض الذي فرضته ألمانيا النازية على اليونان.
وقتها كان قانون اللاعبين الكبار يقول إن من يتحمل تكاليف الاحتلال هي الدولة التي تتعرض له. لكن اليونان تحملت ما يتجاوز بكثير تكاليف «استضافة» الجيش النازي، وصارت مقدراتها تسخَّر لتمويل حروب هتلر في شمال أفريقيا، وتحديداً الحملات الشهيرة للجنرال رومل هناك. حسب بعض المؤرخين، استحوذ النازيون سنة 1942 على 40 في المئة من اقتصاد اليونان.
مقارعة هذا التاريخ الأسود لم تنل من عزيمة العجوز غليسوس. يقول إن التعويضات، في النهاية، هي عن خسائر لا تقدر بثمن. يستذكر كيف عامل النازيون اليونان بفظاعة أشد مما فعلوا مع غيرها. أغضبتهم مقاومتها الكبيرة، وتأخيرها لتقدّم هتلر ستة أشهر اعتبرت أحد أسباب هزيمته. الفظائع التي ارتكبها جيشه لا تزال موثقة في شهادات ديبلوماسيين غربيين، يروي بعضهم كيف دخلوا قرى أُعدم ساكنوها بشكل لم تصدقه أعينهم: الأطفال قتلوا طعناً، قُطعت أثداء نساء وأخرجت أرحامهن، وتم خنق رجال بواسطة أمعائهم.
يتذكر غليسوس أيضاً مئات آلاف مواطنيه الذين ماتوا جوعاً نتيجة تمويل حروب هتلر. يقول إن هذا التاريخ يجب أن يُغلق على نحو مشرف، أن تدفع ألمانيا تعويضاتها كاملة مع اعتذار لائق عن تجاهلها. يقول إنه يعرف تشابك وتعقيد القضية. إنها «سياسية، ديبلوماسية، اقتصادية، قانونية»، لكنها في النهاية، كما يشدد، «قضية عدل وأخلاق».