من الذي يحكم مصر؟

بالعربي_كتب عبد الحليم قنديل : الشعب المصري لم ينتخب إبراهيم محلب رئيس الوزراء، بل انتخب الرئيس السيسي الذي عين محلب، والمسؤول عن أخطاء محلب هو الرئيس السيسي، الذي نعلق في رقبـــته ـ لا رقبة محلب ـ آثار «العك» الدستوري والانتخابي الذي يقوده رئيس الوزراء، وفي ما سموه «حوارا مجتمعيا» هزلي الطابع، شارك فيه محلب ووزراؤه مع ممثلي نحو مئة حزب ورقي في مبنى مجلس الشورى القديم.

ولا نعرف ـ بالضبط ـ فيم يتناقش هؤلاء، ولا ما هو الموضوع؟ خاصة أن حكومة محلب عرقلت تنفيذ أوامر الرئيس المنتخب، ولم تنفذ توجيهه بالانتهاء من التعديلات على قوانين الانتخابات في مدى شهر واحد، يفترض أنه انتهى مع أوائل أبريل الجاري، ولم تصدر الحكومة هذه التعديلات بعد، وتوحي تصريحات وزرائها بالتأجيل إلى شهر آخر، وإصدار التعديلات المطلوبة طبقا لأحكام المحكمة الدستورية في نهاية أبريل، وهكذا حولت الحكومة شهر الرئيس إلى شهرين، وضاعفت المدة بالمخالفة لقرار الرئيس، وهو المسؤول وحده عن التعطيل، حتى لو كانت حكومته هي التي رمت أوامره في سلة المهملات!
وفوق أن ما يجري يعكس الحيرة، ويثير التساؤل مجددا عن طبيعة الحكم في مصر الآن، واسم الشخص الذي يملك الحل والعقد بيده، فالمصريون لا يعرفون ولا يعترفون سوى بشخص واحد، هو الرئيس السيسي الذي انتخبوه، ووضعوا آمالهم عليه، بينما الحكومة التي عينها تمضي في الطريق الآخر المعاكس، تسيء إلى الرئيس المنتخب، وتتآمر عليه بالقصد أو بدونه، وتعطل قراراته، وتصوره كما لو كان لا يريد برلمانا من أصله، أو أنه يريد برلمانا مقصوص الجناحين، وبقوانين انتخابات مشوهة، تظل موصومة دائما بعدم الدستورية، ولا تمكن سوى فئات الثورة المضادة من الوصول إلى البرلمان، وتعمل مع حكومة النظام القديم لهدم الثورة، ومحاصرة مشروع السيسي، والعودة إلى خطوط 24 يناير 2011.
ومثال القوانين الانتخابية يلخص جانبا من أسوأ وجوه القصة الجارية في مصر الآن، فثمة فوضى عارمة في الاقتصاد، وعدوان متصل على حقوق الفقراء والطبقات الوسطى، وتدليل متزايد لأغنياء النهب العام، وتناقض مرعب في سلطة القرار، فثمة رئيس جديد حقا، وبطموحات مختلفة، وبروح وطنية صافية، وبإيقاع عمل أقرب إلى سرعة الصوت، لكن الرئيس الجديد لايزال يحكم بالنظام القديم نفسه، وهو التناقض الذي يوسع الشقة بين الرئيس والناس، ويهز الثقة، ويستنزف شعبية الرئيس المنتخب بما يشبه الإجماع، وينتهى بكلامه إلى مظان الريبة، وعلى نحو ما فعلت حكومة محلب، مع قراره بسرعة إعداد التعديلات على قوانين الانتخابات، والانتهاء منها في مدى شهر على الأكثر، ولم تنفذ الحكومة عامدة متعمدة، وكأنها تخرج لسانها للرئيس، ثم تقيم حوارا هزليا بلا موضوع محدد، وتقول إنها أرادت الاستماع أولا إلى آراء الأحزاب، ثم تمد أجل الانتهاء من التعديلات إلى شهر آخر، وبدون أن يصدر عن مكتب الرئيس بيان ولا إيضاح، يشرح سبب التأجيل، وعدم الوفاء بقراره، وفي الموعد الذي حدده، وبما يجعل مواعيد انتخاب البرلمان معلقة، وعلى طريقة مسلسل «رمضان والبرلمان» لصاحبه المهندس إبراهيم محلب.
نعم، لم يعد أحد عاقل يصدق شيئا مما يجري، فقد حولت الحكومة قرار الرئيس إلى حبر يجف على ورق، ولم يعد ملائما للرئاسة أن تواصل صمتها، فقد تعهد الرئيس من قبل، أن تجرى الانتخابات في مارس 2015، وبدأت الماكينة في العمل بالفعل، وصدرت جداول مواعيد الانتخابات، وقوائم المرشحين، ثم كانت المفاجأة التي لم تكن مفاجئة، وحكمت «الدستورية العليا» بعدم دستورية نصوص في قوانين الانتخابات، فعدنا إلى نقطة الصفر، وبدون استيعاب للدرس والعظة، فقد حذرنا مبكرا جدا من عدم دستورية قوانين الانتخابات، ومن «العك» المفزع في القصة كلها، ومن أول «العــــك الدســـتوري» في باب المواد الانتقالية بالذات، والمسؤول عنه عمــــرو موســـى، الذي بدا مقربا من الرئيس، والذي ارتكب جريمة دستورية كاملة الأوصاف، ووضع نصا هجينا اسمه «التمثيل الملائم»، وهي عبارة غير منضبطة قانونا، فالملائم عند أحدهم ليس «ملائما» لآخر، وبدا قبح الجريمة ظاهرا في المادتين (243) و(244) من الدستور، وتنص أولاهما على «تعمل الدولة على تمثيل العمال والفلاحين تمثيلا ملائما في أول مجلس نواب ينتخب بعد إقرار هذا الدستور، وذلك على النحو الذي يحدده القانون»، وتنص الثانية على «تعـــمل الدولة على تمثـــيل الشـــباب والمسيحيين والأشخاص ذوي الإعاقة والمصريين بالخارج تمثيلا ملائما في أول مجلس للنواب ينتخب بعد إقرار هذا الدستور»، أضف إلى ذلك نص المادة (11) من نصوص الدستور الأساسية الدائمة، التي تتحدث عما سمته «التمثيل المناسب» للمرأة، والقانون لا يعرف شيئا منضبطا اسمه «التمثيل الملائم» أو «التمثيل المناسب»، فالملاءمة أو المناسبة عمل سياسي لا عملا دستوريا، وقد أقحم عمرو موسى ـ رئيس لجنة إعداد الدستور ـ مناورات السياسة على نص الدستور، وبدا كأنه يريد أن يفرغ من مفاوضات دبلوماسية صعبة، وكأن المخرج أن ينقل الكرة إلى المشرع، وأن يلقي كرة النار في حجر الرئيس بصفته المشرع في غياب البرلمان، ووقع الرئيس عدلي منصور وقتها في الورطة، وأصدر تعديلات على قانوني مجلس النواب ومباشرة الحقـــوق السياســية، وقعت مواد بها في محظور عدم الدستورية، رغم أن الرئيس منصور كان رئيسا للمحكمة الدستورية، وعاد إلى رئاستها بعد انتهاء مهمته المؤقتة كرئيس للجمهورية، ثم زادت «الطين» بلة بإصدار قانون تقسيم الدوائر المتمم للخيبة، الذي صدر بتوقيع الرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسي هذه المرة، والذي حكمت المحكمة الدستورية أيضا بعدم دستوريته، ولتنتهي القصة إلى فوضى ضاربة، توقعناها حتى قبل أن تصدر القوانين الثلاثة المعيبة، وبدون أن يستمع إلينا أحد، ولا أن يتوقف ويتبين ضلال السبيل، والباطل الذي بني فوق الباطل، واللجنة المشكوك في أمرها، والتي أصدرت هذه القوانين، واعترف بعض أعضائها علنا بأثر الوحي الأمني الذي حذرنا منه، والذي أملى عليهم اعتبارات تفصيل وتقسيم الدوائر على المقاس المطلوب.
وكانت المفاجأة أن أحدا لم يتعظ، وكلفوا اللجنة ذاتها المشكوك في أمرها بإعداد التعديلات، والسعى للتوافق مع أحكام المحكمة الدستورية العليا، وتوالت الاجتماعات والجلسات، ومعها الحوافز والبدلات، والفتاوى و»التفكيسات»، وأرقام التليفونات وعناوين البريد الإلكتروني، والإعلان عن تلقي مئات المقترحات، وضاع الوقت في مهرجانات «الهطل القانوني»، وتعطل قرار الرئيس بالانتهاء من المهمة في مدة أقصاها شهر، ووضعوا الرئيس في الحرج والمأزق، وجعلوا وعوده دخانا في الهواء، ثم أشاروا إلى محلب بنكتة سخيفة اسمها «الحوار المجتمعي» مع الأحزاب، وهو الحوار ذاته الذي أداروه قبل إصدار القوانين المحكوم بعدم دستوريتها، وفي جلسات «أنتخة»، حضرت شخصيا جانبا منها، وبدون أن يكون للحوار من وظيفة تذكر، فهم يسمعون ويتثاءبون، ثم يصدرون النصوص ذاتها التي أعدوها من قبل في حجرات الفئران، ويقدمونها للرئيس الذي يوقع عليها، ثم تبدأ العجلة الانتخابية في الدوران، وإلى أن تتوقف بالسكتة القانونية، وبحكم متوقع من المحكمة الدستورية العليا، وهو ما يتكرر هذه المرة أيضا، ولا يستبعد معه أن نصل للحائط المسدود ذاته، وبدون أن يعلم أحد متى ستجرى الانتخابات الموعودة؟ ومتى سيكون لمصر برلمان؟ فالموعد يعلمه الله وحده، ولا تفيدك هنا مواعيد المهندس محلب، الذي ربط البرلمان بشهر رمضان، وتمنى أن تبدأ الانتخابات قبل قدوم رمضان، وهو موعد غير منطقي بالمرة، ويتجاهل مراحل إعداد القوانين واعتمادها، ثم أنه يتجاهل الطعون الدستورية الواردة جدا، وأوقات انتظار الأحكام قبل أن تبدأ الإجراءات مجددا، ولاحظ أننا قلنا إن محلب «يتجاهل»، مع أن الفعل المناسب هو «يجهل» وليس «يتجاهل»، والمهندس محلب معذور، فهو رجل يفهم في المقاولات لا في القانون، ثم أن أحدا لن يسائله إذا تأخر موعد إجراء الانتخابات إلى الأجل غير المسمى، فالرئيس السيسي وحده هو المسؤول وليس محلب.
نحن ـ إذن ـ بصدد دائرة مفرغة، ولا خروج منها بغير استعادة الرئيس لسلطته ومسؤوليته، ووقف العبث الذي يجرى الآن، فالرئيس وحده هو المسؤول عن التشريع الآن، وأي عوار ينسب إليه قبل غيره، والمادة (139) من الدستور تنص على أن الرئيــــس «يلتزم بأحـــكام الدستور»، ولا حل عنده سوى بحل لجنة العبث، وتشكيل لجنة قانونية عالية المقام بإشرافه الشخصي، تعيد النظر بصورة شاملة في قوانــــين الانتخـــابات الثلاثة، على أن تنجز عملها في مدى أسبوع لاغير، وتقدمه للرئيس الملزم بعرضه على مجلس الدولة كما ينص الدستور، وعلى أن يعرضه الرئيس بعدها على المحكمة الدستوريـــة، وقبل إصدار القوانين في صيغتها النهائية، وهو ما يتيحـــه نص المادة (192) من الدستور، التي تعطي المحكمة الدستورية وحدها حق وواجب «تفسير النصوص التشريعية»، وتعطـــيها وحدها حق وواجب «الرقابة القضائية على دستورية القوانين»، وبدون أن يقصر الدستور مهمة المحكمة على الرقابة اللاحقة وحدها.
ليس للرئيس سوى أن يفعلها، حتى لو تطلب الأمر تعديلا في قانون المحكمة الدستورية لدرء الشبهات، لا أن يترك البلد في دوامة مقاولات المهندس محلب ولجانه العبثية.