من عبور السويس الى عبور باب المندب

بالعربي كتبت: نارام سرجون:

القلم في الحرب ليس ريشة للرسم وليس رحماً لولادة ذراري الكلام، بل هو بنّاء يبني قلاعاً، كلّ كلمة يشيّدها تنهض مثل القلعة، تبقى ولاتزول، من دخلها فهو آمن، كمن دخل الكعبة، ومن خرج منها وقع في الحفر، وكلّ قلم يكتب دون أن يبني قلاعاً إنما يحفر حفراً وأوكاراً لكلمات تعوي وجمل تنبح، فادخلوا قلاع الكلام لتكونوا آمنين واهجروا الحفر وسكان الحفر وكلاب الحفر، هذا زمن نجوب فيه أرضاً مليئة بالأوكار والعواء لأنّ مثقفي العواء لا يجيدون بناء القلاع بل حفر الوجار والمغاور والأوكار، وفي هذا الزمن الصعب لا مجال إلا لبناء القلاع، ومن يتهيّب بناء القلاع يعش أبداً بين حفر الكلام ليسمع نباح الكلاب التي تحاول نهشه، كلاب «نوبل» التي تنبح وكلاب «تويتر» التي تعوي وتنتشر على طرفي البحر الأحمر، ويسمع عواءها ونباحها من قناة السويس إلى باب المندب،

ليس ما يفصل بين باب المندب وقناة السويس انهدام البحر الأحمر الذي يشبه خندقاً عظيماً يفصل بين الجزيرة العربية وأفريقيا، بل انّ هذا الجسد الطويل الممشوق للبحر الأحمر الذي يبلغ عمره ملايين السنين ليس اليوم هو ما يفصل بين المضيق والقناة، ما يفصل بين المضيق والقناة هو زمن عمره خمسون سنة فقط، هو زمن يفصل بين عبورين، عبور قناة السويس، وعبور مضيق باب المندب من قبل نفس الجيش، القناة تشرّفت بالعبور العظيم في حرب أكتوبر 1973 الذي حققه الجيش المصري وتحدّى بالعبور إرادة الطبيعة وإرادة البشر معاً، فيما لم يحظ المضيق يوماً إلا بعبور القراصنة.

لا يقدر عقل أن يتخيّل كيف أنّ جيشاً عبر قناة السويس وحقق معجزة عسكرية ضدّ خط بارليف، يفكر في أن يدخل في مغامرة عبور لا بطولة فيها ولا فروسية ضدّ خط «الحوثيين» الفقراء، ليبدّل البطولة والأبطال ويقف مع القراصنة ليباهي بفتوحات القراصنة، شتان ما بين البحرين بحر السويس وبحر المندب، وشتان ما بين الجيشين، جيش عبور السويس وجيش عبور باب المندب، وشتان ما بين خط بارليف الأمس وخط بارليف اليوم! وشتان ما بين مسافة السكة بالأمس ومسافة السكة اليوم!

في العبور الأول كان الخصم «إسرائيل» والغرب، وكان الحليف هو سورية، والهدف تحرير أرض مصرية، وأما عبور اليوم فالخصم فيه فقراء اليمن وبسطاؤه، والحليف فيه عائلة آل سعود، وبنيامين نتنياهو، ومضارب آل نهيان، والهدف هو حماية أمراء فاسدين وأسرة فاسدة، وليس الذلّ في هذا النزوح لخطوط العبور من الشمال الى الجنوب آلاف الكيلومترات، بل الذلّ أن يستعين الإعلام المصري بفتاوى وتحريض ضدّ الفقراء في اليمن ليجعلهم يهدّدون أمن العالم وأمن أمراء النفط وبحجة حماية سنة النبي من شيعته، لكن أكثر ذلّ هو أن يستعين الإعلام المصري والجيش المصري بفتاوى مراهقة مسطحة فيها بلاهة اسمها توكل كرمان التي تهدّد الحوثيين وتستأسد عليهم بالجيش المصري الذي عبر السويس يوماً وقهر بارليف؟ بل وتهدّد كرمان السيد حسن نصرالله بالجيش المصري الذي سيضيع اليوم بين نوبل توكل كرمان وبورصة ريم العنزي التي تنقل لنا أخبار بورصة الموت وأسعار الجنود المصريين البخسة كأسعار الأسهم، والتي تقول بكلّ نذالة بأنّ الجيش المصري جيش من المرتزقة، وثمنه بخس جداً.

في كلام كرمان تختلط المهانة بالفكاهة، وفي أسعار الجنود المصريين الذين هم أبناء جيل العبور وأحفادهم يمتزج الذلّ بالقهر والسخرية بالملهاة، فهل يحتاج جيش العبور العظيم الى مساندة توكل كرمان وريم العنزي وانتحاريّي دحام العنزي وتوفيق عكاشة صاحب الشبشب؟ هل هذا العبور يجعل مصرياً واحداً أو جندياً مصرياً يحسّ بالفخر؟ هل يقبل من يعبر خط بارليف أن ينشغل باقتحام خط عبد المالك الحوثي وشعب اليمن البائس الذي ليس لديه من تقنيات بارليف وتعقيداته سوى أكياس الطحين وأجساد الأطفال الفقراء الذين لايشبههم شيء سوى أطفال لبنان وغزة وليبيا والعراق،

نفس القاتل ونفس المجرم ونفس الطائرات ونفس العدو ونفس الحلفاء الذين كانوا ناتو أطلسي علني وناتو عربي سري و»إسرائيل» علناً، وجامعة عربية سراً وعلناً، واليوم تتبدّل الأدوار الى، ناتو عربي علني، وناتو أطلسي سري، و»إسرائيل» علنا، وجامعة عربية سراً وعلنا.

الشعب المصري والجيش المصري يتعرّضان لضغط نفسي كبير وضغط ديني ومذهبي خطر جداً تقوده السعودية، ولكن السعودية لا تعبأ ولا تكترث طالما أنها ستجد أن ذلك سيدفع بالمصريين إلى تغيير جهة العبور من قناة السويس إلى باب المندب نحو الحوثيين، ومن ثم إلى العبور نحو إيران لاحقاً، إلا أنّ الحماقة السعودية لم تعد لها حدود، فالمزاج المصري الشعبي ومزاج الجيش المصري ليسا بنفس الحماس لتنفيذ العبور، والقيادة المصرية تمشي بحذر شديد رغم البيانات الصاخبة، فالتحالف السعودي مع مصر هو تحالف ليس منطقياً لأنه لا يصح فيه إلا وصف ارنولد توينبي لولادة دولة «إسرائيل» بأنه «ضدّ التاريخ وضدّ الجغرافيا وضدّ المنطق، وسيزول إنْ عاجلاً أو آجلاً»، وهذه بالضبط طبيعة العلاقة والتحالف المصري السعودي، أي ضدّ التاريخ وضدّ الجغرافيا وضدّ المنطق، وكثير من المثقفين المصريين فهموا الوضع اليمني وصاروا يجاهرون بالصوت العالي، بأنّ هذه الحرب عبثية وجريمة لا تشرّف الا القراصنة:

حتى هذه اللحظة لا يبدو السعوديون قادرين على معرفة الورطة التي تورّطوا فيها والتي لن ينقذهم منها منقذ، ويريدون ان يجرّوا الجيش المصري تحديداً لدفع ضريبة التهوّر دماً، ولكن ما يلفت الأنظار هذه الأيام هو أنّ السعودية صارت تضرب في كلّ الاتجاهات، فهي تتحرك في اليمن وتتحرك في الشمال السوري وتتحالف مع تركيا وتتحرك في الجنوب السوري متحالفة مع «إسرائيل» والأردن، وتبدو كأنها تتقدّم وتنتصر بأذرعها الإرهابية في الساحات السورية والعراقية واليمنية، إلا أنّ هذه أول مرة تخرج فيها المملكة عن الصمت الخبيث الذي التزمته منذ وجودها، والبعض يعتقد انّ ذلك مردّه إلى ثقة بالنفس بعد سقوط الأعداء واحداً بعد الآخر، وتفرّدها في الساحة بعد انهيار القوى التي كانت تخيفها وتردعها أو على الأقلّ أصابتها بجراح مثخنة، ولكن المنطق يقول بأنّ خروج المملكة عن سياسة اللعب خلف الكواليس الى اللعب على المنصة يشير الى أنّ المملكة تجد أنها لم تعد في مأمن، وأنها بدأت تتحرك خوفاً على نفسها من شيء تستشعره وتقارير مخيفة استخباراتية عن شيء ما قادم، وإلا فإنها بقيت ملتزمة الهدوء وبقيت من سكان الكواليس.

التحركات السعودية متخبّطة جداً وتقول بأنها متوترة جداً، فتحركاتها تضطرها الى صناعة تحالفات غير منطقية أخرى ومتنافرة وتحمل خطورة كبيرة عليها، فمثلاً رغم أنّ التحالف التركي السعودي يبدو متناغماً ظاهرياً لكنه لا يمكن أن يكون طبيعياً على الإطلاق، فصحيح أنّ الدولتين يجمعهما العداء للقومية العربية وللكتلة العربية المهمة الرئيسية الفاعلة بين بغداد ودمشق والقاهرة التي تشكل محرك الشرق العربي، وهما تلتقيان في التحالف المصيري مع الناتو والغرب ضدّ أعداء مشتركين في روسيا وإيران وسورية، ولكن بينهما حاجز الثقة المتبادل العميق التاريخي لأنّ العثمانية أرادت دوماً الحاق الشرق كله وكلّ مكوّناته باستانبول، فيما لا تجد الوهابية السعودية نفسها في مزاج الذوبان مع العثمانية التي إنْ انتصرت صارت زعيمة العالم الإسلامي السني متكئة على تاريخها العثماني الذي يمنحها دوماً الحجة القوية أمام ايّ مشروع إسلامي لتزعّمه، وستنافسها شاءت أم أبت على صناعة القرار الإسلامي إذا ذابت كتلة الثقل بين دمشق وبغداد والقاهرة.

وبالرغم من أنّ السعودية لم تقصّر في محاولة إسقاط الدولة السورية وإلحاقها بفلكها وزرع ظاهرة الحريرية السياسية عبر طائف سوري استماتت من أجله إلا أنّ هذا الهيجان والسعار السياسي والميداني يطرح أسئلة قوية لتفسيره، وفي بعض التفاصيل يبدو أنّ السعوديين توفرت لهم منذ فترة معلومات يقينية أنّ إيران قد أنجزت الاتفاق النووي مع الغرب، وأنّ الإعلان عنه صار مسألة وقت، ولكن ما أثار السعوديين جداً هو أنّ الصفقة لم تتطرّق الى أثمان إقليمية وملحقات للاتفاق في سورية والعراق واليمن، الإيرانيون رفضوا ذلك وفق كلّ المعلومات المتاحة، ولا نعرف إنْ كان

الإيرانيون قد نحجوا في عقد اتفاق تاريخي تخلّت أميركا بموجبه عن العائلة السعودية، تجلّى بقول أوباما إنّ ما يجب أن يخشاه الحكام الخليجيون هو شعوبهم نفسها، كتحذير من التطاول على الاتفاق النووي، بل قال أحدهم بأنّ الصفقة قد تكون فيها تطمينات لإيران بتفكيك منظومة الأسرة السعودية دون تغيير مصالح وتواجد أميركا في السعودية مقابل تفكيك المنظومة النووية العسكرية المحتملة الإيرانية، فجنّت السعودية، وتريد إطلاق الجنون في كلّ المنطقة وهدم المعبد.

ما يمكن استنتاجه أنّ هناك عبوراً آخر يتمّ هذه الأيام، عبوراً نحو مرحلة جديدة ستتغيّر فيها موازين وتتحرّك فيها رمال، وكلّ عبور يتلوه نصر.

منذ خمسين عاماً عبر المصريون قناة السويس وعبر السوريون خط آلون في الجولان، وعبرت المنطقة كلها مع الجيشين الى مرحلة جديدة، واليوم تعبر المنطقة كلها عبر مضيق باب المندب نحو عهد جديد، العابرون الجدد ليسوا مصريين هذه المرة، بل هم الحوثيون الثوار، وفقراء اليمن وشبابه، وربما تنتهي الأسرة السعودية التي لعبت بالملك والشرق قرناً كاملاً وتخرج من ثقب باب المندب، الثقب الذي عبثت به ولن تقدر على رتقه، فسبحان من رتق ما بين البحر الأحمر والبحر الأبيض في سيناء ليكون التحام الشام ومصر، وفتق مضيق باب المندب، لتخرج منه الخبائث…