فحم الفواكه” بمصر.. “عسل” في المكسب و”سم” في الدماء

بالعربي: “صناعة صديقة للبيئة”.. يتردد هذه المصطلح كثيرا عند الحديث عن الصناعات الحديثة، في إشارة إلى عدم تأثيرها السلبي على المجتمع المحيط بها، لكن وبالرغم من أن هذا التوجه صار عالميا، إلا أن صناعة الفحم في مصر لا تزل تعمل وسط الكتل السكنية، لتؤثر على البيئة المحيطة من جهة، وعلى العاملين أنفسهم من جهة أخرى.

وربما لا تستطيع أن تمر بجوار مكمورة لإنتاج الفحم، بسبب الغازات المنبعثة منها والتي ثبت صحيا تأثيرها على دماء العالمين والقاطنين بالقرب منها، لتتساءل كيف يتعايش العاملون بها أكثر من 10 ساعات يوميا وسط هذه الغازات، حتى صارت جزءا من حياتهم اليومية، لإنتاج الفحم النباتي، أو ما يعرف باسم “فحم المكمورة”.
ربما تكون الإجابة في المكاسب التي يجنيها العاملون في هذه المهنة، والذين يتقاضون أجرا يوميا يقدر بـ 70 جنيها (9 دولار تقريبا)، وهو أجر مرتفع مقارنة بالحرف الأخرى، إضافة إلى الأرباح الكبيرة التي يجنيها أصحاب المكمورة، من تصدير إنتاجها للخارج.
“وكالة الأناضول” قضت ساعات مع منتجو فحم المكمورة، لتتعرف على هذه الصناعة القديمة، التي لا تزل صامدة بمصر، من خلال 2200 مكمورة فحم في أماكن مختلفة من المحافظات، يعمل بها حوالي مليوني عامل، منها 220 مكمورة في قرية “أجهور الكبرى” بمركز طوخ بمحافظة القليوبية في دلتا النيل، شمال مصر، كما يقول محمد حسن أحد ملّاك مكامير الفحم.
والمكمورة، هي مكان لتجميع أخشاب الأشجار من مخلفات الأراضي الزراعية التي تشتهر بها مصر، ثم يتولى العمّال تجميعها وتقطيعها لتخزينها حتى تجف لفترة تتراوح بين ستة أشهر وعام حسب نوعية الأشجار وأعمارها.
تبدأ بعد ذلك المرحلة الثانية، وهي الكبس بوضع طبقات من “قش الأرز″، بعد ذلك توضع طبقة من الرماد، ويتولى العمّال في المرحلة التالية إشعال النيران فيها ببطء لينتج عنها ما يعرف بـ “فحم الفواكه”.
يقوم العاملون بعد هذه الخطوة بتبريد الفحم من خلال رش المياه وتترك لمدة 4 أيام، ومن ثم فلترته للتخلص من أي شوائب عالقة به، وأخيرا تتولى عاملات من النساء تغليفه ليصبح جاهزا للاستخدام المحلي والتصدير.
هذه المراحل التي سجلتها عدسة وكالة الأناضول، توارثتها الأجيال، ولم تتغير منذ مئات السنين، ولم يخف حسن وأقرانه من ملاك المكامير، ضيقهم الشديد من مدى بدائية مهنتهم رغم أهميتها، ما يجعلهم على صدام دائم مع البيئة ومجتمعهم المحيط.
ويقول حسن: ” نناشد القائمين على وزارتي الصناعة وشئون البيئة وكافة الوزارات المعنية بالأمر، بمساعدة القائمين على هذه الصناعة لتطويرها وجعلها صناعة صديقة للبيئة”.
وخلال السنوات الماضية تلقى أصحاب المكامير وعودا من وزارة البيئة بتقديم الدعم الفني وآليات تمويل لمساعدة هذه الصناعة على استخدام مكامير مطورة تلتزم بالضوابط والمعايير البيئية الموجودة في القانون ومساعدتها على استخدام تكنولوجيا أكثر توافقا مع البيئة.
ويتمنى أصحاب المكامير تنفيذ هذه الوعود، بما يمكنهم من حماية أنفسهم والمجتمع المحيط بهم من أي أضرار، بحسب حسن.
وتسببت بدائية هذه الصناعة في خلافات دائمة بين أصحابها والمجتمع المحيط بهم، وتظاهر أكثر من مرة المئات من سكان قرى مركز طوخ، بمحافظة القليوبية، لمطالبة المسئولين بإزالة مكامير الفحم المتواجدة بالمحافظة، ورفعوا لافتات “أطفال إسرائيل مش أهم (ليسوا أهم) من أطفالنا”، في إشارة إلى أن مكامير الفحم تعرض حياة أطفالهم للخطر، والمستفيد من ذلك إسرائيل باعتبارها من الدول المستوردة لفحم الفواكه.
وينتج “فحم الفواكه” في مصر فقط، ويتم تصدير إنتاجه بالكامل من مصر يوميا بنسبة 70% للدول العربية والباقي لدول أوروبا وآسيا؛ ويحصل العامل في المكمورة على أجر يومي 70 جنيها  ( 9 دولارات تقريبا )، بحسب حسن.
ويضيف: “مكمورة الفحم الواحدة تنتج 10 أطنان يوميا من فحم الفواكه وتستوعب مقطورة (عربة النقل الكبيرة) التصدير الواحدة للدول العربية 25 طنا، بينما تستوعب نظيرتها الموجهة لأوروبا 15 طنا”.
هذا الإقبال الكبير على استيراد فحم الفواكه من مصر له ما يبرره، فلهذا الفحم ميزة هامة يذكرها حسن، وهي قدرته الفائقة على الاشتعال وعدم الإنطفاء بسهولة، لذلك تقبل على شرائه بكثافة المطاعم المتواجدة في أماكن تعاني من نقص العوامل الهوائية التي تساعد على اشتعال النار، وذلك في مختلف دول العالم.
ولأهمية هذه الصناعة التي أبقت الطلب على فحم الفواكه المصري، يقول حسن: “لا يتوقف إنتاجنا اليومي على مدار العام، لا في العطلات الرسمية ولا حتى بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني 2011)، والتي أثرت بشدة على كثير من الصناعات المصرية”.
وتصدر مصر بقيمة 11 مليون دولار فحم نباتي إلى دول العالم المختلفة، بحسب إحصائيات رسمية مصرية، غير أن هذه القيمة المادية يقابلها أخطار صحية يواجهها العاملون في الصناعة، والمناطق المحيطة بمكامير الفحم.
وسبق وأجرت وزارة البيئة المصرية دراسة عام 2001 حول الغازات المنبعثة من مكامير الفحم، وتوصلت الدراسة إلى أن انبعاث غازات أول وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين بنسب أكبر من المعدلات الآمنة.
وبحسب دراسات طبية، فإن غاز “أول أكسيد الكربون” له قدرة على الاتحاد مع الهيموجلوبين 200 مرة أكثر من الأكسجين، وبالتالي فإنه يؤدي إلى التسمم الحاد والصداع والدوخة والغثيان والفشل التنفسي.
وفي حالة ارتفاع تركيز الغاز واستمرار تعرض الجسم له فإنه يؤدي لعوارض مزمنة، مثل ضعف الذاكرة، نقص الإنتاجية في العمل، اضطرابات في النوم وفي السلوك، وارتفاع في مستوى الكولسترول.
أما بالنسبة لغاز “ثاني أكسيد الكربون” فإن تواجده في الجو بتركيز منخفض قد يؤدي إلى تسارع في التنفس والصداع والتشويش الذهني والشلل الارتخائي، أما إذا زاد تركيزه عن 5% فإنه يؤدي إلى فقدان الوعي والوفاه.
وهناك أيضاً أضراراً صحية تنجم عن أكسيد الكبريت، إذ أن هذا الغاز يتحول إلى حامض الكبريتيك عند ملامسته للسطوح الرطبة للأغشية المخاطية، وينجم عن ذلك التهابات وأمراض مزمنة في الجهاز التنفسي، وتتسبب “أكاسيد النيتروجين” بتهييج للحويصلات الهوائية في الرئتين، في حين يمكن أن يؤدي تراكم الغبار فيهما إلى التليف والوفاة.
ويعيش مليوني عامل مصري بهذه المهنة مع تلك الأخطار يوميا، إضافة إلى المحيطين بأماكن الصناعة، مما يجعلها مضرة صحيا وربما تقود إلى الموت البطىء، على الرغم من مكسبها السريع والكبير.

القاهرة – مروة جمال – الأناضول