بين شياطين الأرض وآلهة السماء

بالعربي_كتب فريد الخازن : ذا كان ثمة لائحة شرف لضحايا «الربيع العربي» في مطلع عامه الخامس، فالذي يتصدّرها النظام الإقليمي العربي. الجامعة العربية، النواة الرسمية لهذا النظام، مكبّلة قبل «الربيع العربي» وبعده. مجلس التعاون الخليجي في اضطراب لم يعد مستوراً، بعدما انهكته الانقسامات وصراع النفوذ والسلطة. واليمن، وإن كان سعيداً، لا يجلب اليوم سوى المتاعب لجيرانه، خصوصاً المملكة العربية السعودية. دول المشرق العربي في أتون حروب مدمرة ومواجهات محتدمة مع «الدولة الإسلامية» السلفية المتمادية في عنفها وفي تمدّد خطرها على الحكام والمحكومين.

أما مصر فتحاول التقاط أنفاسها واستعادة دورها بعد الاهتزازات الكبرى التي شهدتها والتحديات التي تواجهها مع دول الجوار العربي والافريقي. دوائر مصر الثلاث (العربية، الأفريقية والإسلامية) منذ الحقبة الناصرية مأزومة ومعطلة. دول المغرب العربي استطاعت ان تتأقلم مع التحولات بأقل الأضرار الممكنة. تونس قدمت النموذج في أداء شعبها وحكامها وهي لا تزال في دائرة الخطر، والمغرب تعامل بمرونة مع التغيير المتاح قبل «الربيع العربي» وبعده، بينما الجزائر حسمت «ربيعها» باكراً واتخذت لنفسها مساراً مختلفاً.
عملياً، انتقل مركز صراع الدول والعصبيات (بحسب تعريف ابن خلدون في القرن الرابع عشر وهو لا يزال معبّراً عن أحوال القرن الحادي والعشرين) في العالم العربي منذ ثمانينيات القرن الماضي من فلسطين وجوارها الى العراق وجواره، دول الخليج العربي وإيران. وازدادت الأوضاع تعقيداً مع تفاقم الشرخ المذهبي المتداخل مع الشرخ الإسلامي الأصولي ضمن الحركات الجهادية وبين الأخيرة و»الإخوان المسلمين». ومن الجهة الأخرى، يطلّ مشروع «تركيا الفتاة» بنسخة إسلامية في حملة «تتريك» سياسي للجوار العربي عبر البوابة السورية.
إنها حالة من التخبط والضياع، لا تشبه تفكك الاتحاد السوفياتي بعد انتهاء الحرب الباردة او تداعيات سقوط السلطنة العثمانية. ومنذ ذلك الوقت، تغير العالم ومعه واقع المنطقة والسياسة الدولية تجاهها، فلن تنشأ دول جديدة، ومخاض البحث عن توازنات ثابتة سيطول ومعه استقرار الدول وطموحات شعوبها. والصعوبة تكمن في أن هذه الأوضاع المبعثرة ليست مرتبطة بمسألة محدّدة، سياسية، عسكرية، اقتصادية، او ايديولوجية. فالمسائل الخلافية متداخلة ومتناقضة ولا امكانية لضبطها في المدى المنظور من الداخل المأزوم أو من الخارج غير المكترث، خلافاً للظروف والمصالح والمعايير التي سادت إبان التحولات الكبرى في المنطقة، بعد الحربين العالميتين او في زمن القومية العربية والقيادة الناصرية. موازين القوى في العالم العربي مشتتة والقضية الجامعة مفقودة والقيادة المرجعية غائبة. فالجميع، في السلطة وخارجها، في حال من الترقب والحذر وعدم الثقة بالذات وبالغير. الهموم والضغوط كبيرة على مصر ودول الخليج العربي، وسوريا والعراق ساحة حرب مفتوحة، والأردن ولبنان في مرمى النار. فَمَنْ سيتحالف مع مَنْ، في إطار «قوة عربية مشتركة» أو قوى منفردة، ومن سَيثِق بمن لمواجهة التحديات، المتناقضة الأهداف والغايات، بالنسبة الى الأطراف كافة: محاربة الخلافة الداعشية، التصدي للتمدد الإيراني وللطموحات الكردية وللنظام السوري، إبقاء اليمن دولة موحدة وفي دائرة النفوذ السعودي، واستقرار الدولة والمجتمع في ليبيا التي باتت تشكل مخاطر متنوعة على جيرانها، عرباً وأفارقة وأوروبيين. هذا كله، قبل معرفة ما ستفضي اليه «مفاوضات السلام» بين واشنطن وطهران.
بالمقابل، ثمة مشاريع قائمة مصدرها دول الطوق، لا بالمعنى المتعارف عليه، أي الدول العربية المحيطة بإسرائيل، بل تركيا وإيران، دولتا طوق النظام الإقليمي العربي، ولكل منها طموحات سياسية معلنة وقدرات عسكرية واقتصادية واندفاعة لافتة. فبين مشروع عثماني إسلامي تقليدي وآخر فارسي إسلامي نووي، يجد العالم العربي نفسه بين فكّي كماشة، وما تبقى من مشروعه القومي متعثر ويغلب عليه التوجه الإسلامي. تركيا تسعى للوصول الى الداخل العربي عن طريق البر وإيران سبقتها الى البحر، الأبيض والأحمر. وعلى المقلب الآخر، مشروع صهيوني متواصل منذ نحو قرن ويمارس الآن «الاستيطان السياسي» في عقر دار الدول العظمى نفسها.
فمن المشروع القومي المشترك، الى هزيمة 1967 المشتركة، الى العجز والتفكك المشترك، انتقل العالم العربي، دولاً وجماعات، بفعل التطرف الديني من مشاريع نطاقها الأوطان وكيانات الدول الى مشاريع تحاكي الإرادة الإلهية، بينما اهتمام «دول الطوق» الجديدة ودائرة عملها الجغرافيا والتاريخ وشياطين الأرض لا آلهة السماء.