معذرة هيرودوت هل يجف النيل وهل تبقي مصر هبته

بالعربي-إبراهيم يسري:

اكتب هذا المقال وليس امامي ما اطمئن الي صحته نظرا للكتمان الشديد الذي يصاحب موضوعه ، ولني لا استطيع ان أقاوم السؤال الحزين بعد توقيع ما سمي باتفاق المبادئ وتنازل حكومتنا في امر لا يدخل في مجال سلطاتها و بالتعرض مع المادة٤٤ من دستور ٢٠١٤ فقامت بالتنازل عن حقوق مصر في عشر اتفاقات دولية سارية بموجب احكام التوارث الدولي الذي قننته اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات ؟

وهل ما زال النيل نهرنا؟

كان للنيل عند الفراعنة مكانة خاصة و إجلال وعظمة و كانوا يحتفلون به كل عام بل يقدمون له عروسا ضمن مراسم الاحتفال  (وهو ما اسماه جيلنا عيد  وفاء النيل ) كنا نسمي شباب مصر بشباب النيل وعماد الجيل هذه مصر تناديكم فهبوا، وتساءل شوقي في قصيدة عبقرية : من اي عهد في القري تتدفق و باي يد في المدائن تغدق وسمينا حافظ ابراهيم بشاعر النيل وتغني به الشعراء و المغنيين نذكر منهم عبد  الوهاب  في رائعة محمود حسن اسماعيل  النهر الخالد واهب الخلد للزمان ، وقديما  غني عبد الوهاب النيل نجاشي و امتي الزمان يسمح ياجميل و اروح معاك علي شط النيل و غنت ام كلثوم قصيدة بيرم التونسي شمس الأصيل  ،و نشيدا وطنيا يا شباب النيل يا عماد الجيل ، وقصائد البارودي  الرومانسية عن مياه النيل التي وصفها باللجين ، و حديثا  واصل جيل جديد من الشعراء التغني بالنيل  يتقدمهم فاروق جويدة و  وعشرات الكتاب و الشعراء وما زلنا نسمي منجزاتنا باسمه مثل القمر الصناعي نايل سات و قناة النيل للأخبار وبنك النيل ،وهذا قليل من فيض فالنيل أقدس الانهار و اقدمها وهو النهر الوحيد الذي أقام اقدم كحضارة في التاريخ  في مصبه مصر .

غير اننا نسمع ونري الان كل قيمنا وحضاراتنا تتحطم بيد المصريين و ليس المغول او التتار او الفرس.

ولا نود الحديث عن الدماء التي تسيل داخل مصر و الكرامات التي تهدر و البنات اللائي يغتصبن وهو تدهور غير مسبوق لم تراه مصر في ماضيها العريق ولكننا نعاني حسرة و حزنا علي نيلنا الذي جاء دور اغتياله امام اعيننا و بايدي قادتنا.

ولم يكن الخطر علي نيلنا مفاجئا ولا وليد يوم ٢٣ مارس ٢٠١٥  الكسيف ، بل بدات بوادر الخطر عندما قرانا عن مكتب هندسي أمريكي يرسم سنة ١٩٥٨ مشروعا هو الاكبر في العالم كله و الذي سمي بعد ذلك بسد الألفية ثم سد النهضة ، وراقبنا تحركات إسرائيلية قام بها الصهاينة و آخرهم ليبرمان يلتقي فيها خراب الصهيونية وتنافس او عدم توافق تاريخي قديم آنذاك بين الحبشة  ومصر منذ طلبت الملكة هيلانة  الحبشية من إمبراطور البرتغال القضاء علي المسلمين بها(ويبلغون الان ٣٥٪ من سكان اثيوبيا )وقبل ذلك تجاهل قدماء المصريين  لها و كانوا يفضلون  تبادل التجارة مع بلاد بونتس (الصومال حاليا) مما ازعج الاحباش وقد سجل هذا الوضع في أوبرا عايدة الشهيرة التي أسر المصريون فيها ملك الحبشة و ابنته وتبع ذلك غزوات الخديو اسماعيل المشهودة التي استهدفت استكشاف مساراته و منابعه و ضمنها احتلاله مدنا و مساحات واسعة من الحبشة مما ملا قلوب ملوكها حقدا علي مصر.

ولكن تغير الحال قبيل قيام منظمة الوحدة الافريقية ،التي تطورت الي اتحاد أفريقي ،فقامت صداقة بين عبد الناصر وهيلا سياسي اخر اباطرة الحبشة بل ووافق عبد الناصر علي ان تكون اديس أبابا عاصمة اثيوبيا هي مقر المنظمة الافريقية الوليدة التي قامت نتاجا لإلهام زعمائنا نكروما و عبد الناصر و هيلاسلاسي و باتريس لومومبا زعيم الكونجو الذي اغتيل بعد ذلك وكان اهم ما اتفقوا عليه وقتها  هو انه عند استقلال دول افريقيا ينبغي تفاديا  قبول الحدود و الترتيبات الاستعمارية وعدم المنازعة في الاتفاقيات التي تتعلق بالقارة السوداء، تعزيزا للوحدة و الصداقة و التنمية بدلا من المنازعات و الحروب.

ولكن تطوراخطيرا طرأ منذ عشر سنوات غابت فيها مصر عن افريقيا وأنهك قوتها حكم عسكري شمولي مما شجع دول المنبع علي الاستجابة لتحريض خبيث شاركت فيه امريكا وقادته اسرائيل  ودعمته استثمارات إيطاليون و صينية بل و للأسف الشديد استثمارات  خليجية واسعة واسفر  الامر عن إقناع دول المنبع بان مياه النيل تخصهم فقط و انهم لا يعترفون باتفاقيات تقسيم المياه التي بدات عام ١٨٩١ حتي اتفاقية ١٩٢٩ التي ترسم حصص دول النيل في مياهه . فطرحت فكرة صياغة ما اسمي بالاتفاقية الإطارية التي ما لبثت بعد عدد من الدورات ان وقعت في عنتيبي و رفضتها دولتا المصب مصر و السودان .

وقد بدا العبد الضعيف كاتب هذا المقال اهتمامه و تحذيره من سنة ٢٠١٠ وقبل ثورة يناير فوجهت دراسة لخطة التعامل مع اثيوبيا لكل من الصديق الزميل احمد ابو الغيط وزير الخارجية و السيد عمر سليمان رئيس المخابرات العامة تتضمن اتصالات دولية مكثفة و فاعلة ثم استخدام ما نملكه من أوراق ضغط قوية نقوم بها العدوان المائي الاثيوبي و اللجوء لمحكمة العدل الدولية التي أصدرت حكما في صالحنا عن بناء احد السدود في نهر الدانوب ،وربما بدات دراسة هذه الورقة وقتها ،  و لكن سقوط مبارك أوقف اي تناول جاد لهذا الخطر
، وبعد الثورة سلمت مذكرة مزيدة الي الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء بعد الثورة ولكنه رضخ علي ما يبدو لضغوط بعض رجال الاعمال المصريين الذين يستثمرون ملايين الدولارات في أوغندا و اثيوبيا و غيرهما وهم الذين ابتدعوا خدعة الدبلوماسية الشعبية وخصصوا طائرات خاصة و اقامات مجانية في فنادق خمس نجوم وهدايا لعدد من النخب و الشخصيات المصرية وعادت هذه الوفود تبشر بحل النزاع . وبعد ذلك ناديت في بيان متلفز باسم جبهة الضمير بمحاكمة وزراء الري السابقين بما فيهم هشام قنديل رئيس الوزراء آنذاك لرخاوتهم في تناول هذا الملف ، وقدمت دراسة مماثلة للتعامل مع المشكلة و درء الخطر الي الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية و الفريق اول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع آنذاك .

ولأنعدام الشفافية اعلن قبل أسبوع  عن زيارة يقوم بها الرئيس المصري للخرطوم بناء علي دعوة من رئيس السودان لعقد مباحثات حول سد النهضة ، فسارعت بالكتابة علي صفحة الرئيس في الفيسبوك وهي الطريق الوحيد المتاح وجهت  فيه نداء عاجلا للقانونيين و خبراء الموارد المائية المصريين الشرفاء  بتحذير السيسي من الوقوع بين فكي ديسالين تضمن النقاط التالية :

١- مصر ملتزمة وفقا للاتفاقيات الدولية النافذة وعددها عشر اتفاقية ووفقا للمادة ٤٤ من دستور2014 الذي اعدته لجنة الخمسين بموافقة السيسي و التي تلزم الرئيس و الحكومة و الدولة المصرية بالحفاظ علي لاتفاقيات الدولية السارية وحقوق مصر التاريخية التي استمرت. قبل ٧٠٠٠ سنة علي الأقل.

٢- ليس في سلطة رئيس الدولة ان يوقع اتفاقا يلغي الاتفاقيات السارية و الحقوق التاريخية و يخالف فيه نصا صريحا في الدستور في غيبة البرلمان.

٣- مصر تعاني من نقص المياه حاليا بنسبة ٥٠٪ ولا تتحمل اي نقص في مياه النيل.

٤- لا تعارض مصر مشروعات التنمية الاثيوبية و الافريقية بل علي العكس لنا جهد واضح في المشاركة في تلك المشروعات و دعمها و خصصنا صندوقا خاصا لدعم افريقيا برأس مال قدره ٢٠ مليون دولارا رغم متاعبنا المالية.

٥-كانت اثيوبيا تسير نحو تنفيذ مشروع سد البوردر وهو ينتج كميات هائلة من الكهرباء المتاحة للتصدير كما انه يفيد في توسع كبير في الزراعة و لكنها انتهزت فترة عدم استقرار مصر و ثورتها لكي تنفذ سد النهضة وهو مشروع عملاق وضع تصميمه منذ سنوات مكاتب هندسية أمريكية كندية و تدعمه اسرائيل وهدف سد النهضة ليس بالضرورة تنمويا بقدر ما هو سياسي يهدف لتحطيم وضع مصر في افريقيا وجعلها تابعا لاثيوبيا التي تمسك في يدها بحنفية المياه و سكينة الكهرباء الصادرة لمصر مما يولد لها قوة مؤكدة للسيطرة علي السياسية المصرية.

٦- تحقق اثيوبيا حاليا نسبة تتجاوز٧٪ و ستزيد هذه النسبة بل تتضاعف لتصبح سيدة افريقيا و تكون مصر تابعا ذليلا لها.

٧- وسائل الدفاع عن حقوق مصر متاحة يساندها وضع قانوني قوي واحكام من محكمة العدل الدولية ولم نستخدمها حتي الان.

٨- علي مصر ان تفهم اثيوبيا ان جميع خياراتها مفتوحة و انها ستدافع عن حقوقها بكل الوسائل ، ولعل الامور لا تساعد علي اقتباس ديسالين أغنية عبد الحليم عن السد العالي …قلنا حانبني وادي احنا بنينا سد النهضة .

٩- لدينا أوراق ضغط قوية جداً لا تشمل استخدام القوة و يمكن ان تخضع لضغوطها  اثيوبيا  وهي أوراق ذبحة لم نستخدمها منذ  اقترحتها علي المسئولين سنة٢٠١٠ قبل الثورة و بعدها.

١٠- و يبقي استخدام القوة اخر الخيارات وهو ما هدد به عبد الناصر.

وكان هذا النداء صرخة في الهواء لم تؤخذ في الاعتبار و فوجئ المصريون ظهر يوم ٢٣ مارس المشئوم و الذي وقع فيه الرؤساء الثلاثة ما سمي بوثيقة للتعاون في مجالات عديدة وضع سد النهضة بما يعني -لو صح النبا – ان مصر قد قبلت بناء السد و خسارة تصل الي ١١ مليار متر مكعب من حصتها وهي ٥٥ مليار متر وهذا تصرف يصعب تاسيسه علي معطيات المصلحة حيث لن يتسبب فقط في نقص المياه اللازم لزراعة ٤مليون فدان في مصر كما سينخفض انتاج الكهرباء من السد العالي بمقدار ٣٠٪ و يصبح السد العالي بعد فترة مثل سد مآرب يزوره السياح .

بكل ما لي من هبات عقلية لم استطع ان أخذ ذلك كحقيقة فرحت اطرح احتمالات أخفف بها جمعي وقلقي علي بلادي منها :
١- ان رئيس مصر المعروف بقدراته و خبراته يجري عملية خداع استراتيجي لديسالين و البشير معا حيث يبدو اضحا ان مساندته لمصر ليست جدية متطلعا لمكاسب محققة من سد النهضة وانه سيتخذ في وقت لاحق خطوات قوية ماحقة لوقف بناء السد او تخفيض سعة تخزينه بما يبعد الخطر عن مصر.

٢- ان الاتفاق غير نهائي و ينتظر نتائج اللجنة الثلاثية الثالثة او الرابعة حتي يقرر ما اذا كان من المقبول ان يوافق علي إسقاط المعاهدات الدولية الحقوق التاريخية في مقابل تعهد واضح من اثيوبيا.

٣- ان توقيع مصر علي الوثيقة تم بضغوط أمريكية إسرائيلية في مقابل التلويح للنظام بدعمه و استمراره في مواجهة شعبه
واخيرا وليس آخراً ما زلت احذر من أخذ اي أوراق او وعود من اثيوبيا ماخذ ثقة مما يضعها كما قلت تملك محبس المياه وسكينة الكهرباء التي تصل منها لمصر وحينئذ تصبح مصر  مجردة من اي مقاومة للسياسة الافريقية  راخضة لإرادتها هي. وحلفائها الأمريكان وإسرائيل ومستثمري الخليج لتصبح اثيوبيا اقوي دولة في افريقيا و أكثرها ثراء و رفاهية حيث سترتفع نسبة نموها الاقتصادي من ٨٪حاليا الي نسبة اكبر كثيرا في حين تتدهور قدرات مصر الاقتصادية.

٥- وامام هذه المعطيات فليس من السهل استبعاد تنفيذ مشروع ترعة السلام القديم الي اسرائيل .

وهكذا فنحن امام محاولات قوية و قادرة لتقزيم مصر وتقليل اي وزن او نفوذ لها وأكاد اجزم مؤكدا ان شعبنا في مصر سيضع من اهداف ثورته المستمرة الغاء كل هذه الترتيبات الشيطانية و قد لا اري هذا اليوم ولكني واثق من استمرار و صمود إرادة الشعب المصري بكل فصائله.

ربنا ابسط حمايتك و رعايتك علي مصر ولا تجعلها ذليلة مكسورة الجناح وبارك ثورتها و شعبها فهو لا يستحق هذا المصير المخجل .