جيش 2015".. محطة جديدة من تطور العلاقات المصرية-الروسية

بالعربي: عانت العلاقات الروسية-المصرية من متاعب جمّة بعد تراجع الرئيس المصري السابق أنور السادات عن الالتزام باتفاعية الصداقة والتعاون الموقعة عام 1971 بين بلاده والاتحاد السوفييتي. اتخذ الأخير موقفاً حازماً من القاهرة، لم يتحسن إلا بعد سنوات طويلة من حكم الرئيس السابق حسني مبارك، الذي تمكن من استعادة قدرٍ محدود من رضى الروس.

من هنا، يمكن تفسير الحذر الروسي المستمر بالتعاطي مع مصر، الدولة المهمة جداً في الشرق الأوسط، والتي تدرك موسكو أهمية دورها في كل الملفات الكبرى المفتوحة اليوم على مصراعيها، إلى جانب أهمية كسبها إلى جانب أي قوة تريد لنفسها دوراً عالمي

تصاعد الاهتمام الروسي بمصر

نشّطت موسكو ماكينتها الدبلوماسية تجاه مصر مع اندلاع الأحداث فيها قبل أربع سنوات، وأبقت راداراتها السياسية مركزة على ترددات القيادة المصرية، لرصد أية تغيرات في حركة دوران مصر حول المدار الأميركي، ومع منسوب عالٍ من النشاط الثوري لشباب مصر، كانت السنوات الثلاث الأخيرة كافيةً لاستعادة مصر توازنها نظرياً، واستدراك نفسها كقوةٍ هي بغنى عن أن تكون تابعاً أو ملحقاً بسياسة أجنبية مخالفة لمصالح شعبها.
ومع تزايد الفوضى في سوريا والعراق في فترة ما خلال العامين 2012-2013، خطت موسكو خطواتها الكبرى باتجاه أطراف واعدة داخل القيادة المصرية العسكرية، ومدت جسوراً مطمئنة، توجهت بوصف الرئيس فلاديمير بوتين لقرار المشير عبدالفتاح السيسي بالترشح للرئاسة بـ"القرار المسؤول".
منذ ذلك الوقت، تبادلت الدولتان العديد من الزيارات عبر مسؤولين سياسيين، دبلوماسيين، أمنيين، اقتصاديين وغيرهم. وهذا ما يدل على اهتمامٍ روسي متزايد بعلاقاتٍ متينة وطويلة الأمد مع مصر، خصوصاً وأن القضايا التي تشكل هاجساً مشتركا لدى الدولتين باتت عديدة، يضاف إليها قضايا أخرى تشكل فرصاً طموحة يمكن للجانبين الاستفادة من تعاونهما بشأنها.
مكافحة الإرهاب واحدة من أهم هذه القضايا، تماماً كما هي الحال بالنسبة لاضطلاع مصر بدورٍ أكثر فاعلية بخصوص الأزمة السورية، والرهان الروسي عليها باجتذاب أطراف المعارضة السورية الأقل تطرفاً، ومساعدتهم على الخروج بموقفٍ قابل للحياة على طاولة المفاوضات النهائية مع الدولة السورية في فترةٍ لاحقة.
من جانبٍ آخر، فإن التعاون في مجال الطاقة والمياه مهم جداً بالنسبة للدولتين، حيث تم التركيز على هذا الموضوع في معظم اللقاءات الرسمية، كما في المبادرات التي أطلقها نشطون اقتصاديون، ووفود شعبية كان أولها في المرحلة الجديدة، الزيارة التي قام بها الوفد الشعبي الروسي لمصر في أيار-مايو من العام 2014، للاحتفال بالذكرى الـ50 لتغيير مجرى النيل، وبمشاركة مجموعة من بناة السد العالي.
النقطة الأبرز التي أثيرت مؤخراً في هذا السياق، هي بحث مجموعة من الخبراء المصريين والروس فرص بناء محطة كهرومائية في مصر، وتقديم الروس مساعدات فنية قيمة في هذا الإطار.
كما أن روسيا تدرك جيداً أن السوق المصرية واعدة جداً بالنسبة لمستثمريها فيما لو بنيت استثماراتهم على قاعدة تحالف سياسي متين بين البلدين، وبالفعل فقد بدأت بوادر ذلك تظهر، مع روسيا كما مع الصين التي طرح مستثمروها عروضاً لإقامة مصانع بقيمة مالية عالية في مصر.

مجموعة "بريكس" تطلق ذراعها المالية

طالما استخدمت الولايات المتحدة الأميركية مساعدات "البنك الدولي" وصندوق النقد في سبيل إرغام الدول على اتباع نهجها الاقتصادي، والسير بسياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي لاقتصاداتها، على الرغم من عدم ثبوت جدوى تلك السياسات في الدول النامية، التي بقيت تتخبط في دوامة الديون من ناحية، وأرقام النمو الهزيلة والوهمية، من ناحية أخرى.
هذا ليس جديداً، أما الجديد بالفعل، فهو توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قانون المصادقة على اتفاقية إنشاء "بنك بريكس". هذا التوقيع الذي أجّلته روسيا عاماً كاملاً في اجتماع مجموعة بريكس في جنوب أفريقيا العام 2014، يعني أن الذراع المالية للمجموعة باتت موجودة وهي الذراع التنموية التي تساعدها في لمّ الدول التواقة إلى التعاون معها، خصوصاً أن البنك المذكور بدأ برأسمال قدره 100 مليار دولار. وبحسب ما أعلنت وكالة "سبوتنيك" الروسية، فإن "بنك التنمية الجديد سيكون مقره مدينة شنغهاي الصينية، وسيقوم بتقديم التمويل لمشروعات البنية التحتية، في دول "بريكس". وعلى عكس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإن كل دولة من دول بريكس لديها حصة على قدم المساواة في البنك، بغض النظر عن حجم الناتج المحلي الإجمالي. وقال الرئيس بوتين خلال اجتماع قمة "بريكس" السادس المنعقد في مدينة فورتليزا البرازيلية، إن "بنك (بريكس) سيكون واحدًا من المؤسسات المالية المتعددة الأطراف الرئيسية للتنمية في هذا العالم"، ويُتوقع أن يباشر العمل في نهاية عام 2015. فما تأثير ذلك على مصر؟

بنك "بريكس".. البديل المطمئن لمصر على المدى الطويل

لا شك أن الحياة السياسية المصرية تشهد نشاطاً مختلفاً في السنوات الأخيرة، وتلعب فيها أطراف عدة أدواراً كبيرة، فبين النشاط الإعلامي المحموم منذ وصول محمد مرسي إلى الحكم، وبعد تنحيته، وخلال الفترة الحالية بظل رئاسة السيسي، وبين الحراك الدائم لأصحاب رؤوس الأموال بحثاً عن انطلاقة جديدة، تقف الإدارة الحكومية الاقتصادية باحثةً عن سندٍ لها يقيها الحاجة للقروض المبنية على رضى واشنطن.
لذلك فإن من يتابع الإعلام المصري، بل حتى الإشارات التي يطلقها بين الحين والآخر مسؤولون رسميون، يلمس رغبةً مصرية بالانضمام إلى مجموعة "بريكس" في فترة لاحقة. وهذا إن تم، يعني فرصاً كبيرة للاقتصاد المصري، تعالج من خلالها القاهرة هواجس تثبيت النظام الذي يبدو جريئاً بخياراته السياسية. ولكن احتمالات دخول مصر إلى المجموعة تبقى غير  مؤكدة.

في هذا السياق، يؤكد المسؤولون المصريون أن علاقاتهم الصاعدة مع روسيا، وشمولها مجالات حيوية من نشاط الدولتين، لا يعني تخليهم عن علاقاتهم بالولايات المتحدة، بل إنه يأتي في إطار بحث مصر عن مصالحها مع كل الدول، وأنه عودة إلى التفكير الاستراتيجي بمصالح الدولة فقط، بصرف النظر عن المنافسات القائمة بين الدول الكبرى على المنطقة. ومع أن الفكرة فيها الكثير من العقلانية، إلا أن طبيعة التغيرات التي تشهدها العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة في الفترة الراهنة، تشير إلى أن كسب علاقات متينة وطويلة الأمد بالدولتين معاً أمر بالغ الصعوبة، وأن تحسن العلاقات مع موسكو قد يحمل معه تراجعاً بقدر معين في العلاقات مع واشنطن.

غير أن الإدارة المصرية الحالية تدرك حاجتها إلى أمرين حيويين: أولاً، تمتين الاستقرار الاقتصادي ومن ثم السير باتجاه اقتصاد أكثر قوة؛ وثانياً، حماية الدولة أمنياً من خلال تمتين القوة العسكرية وإيجاد الحليف القادر على تطويرها.

"جيش 2015".. مصر تعود إلى التسلح الشرقي

تلوح أمام أعين القيادة المصرية مخاطر كبرى، من انفلاش الإرهاب في ليبيا على الحدود الغربية، إلى الضربات المتتالية التي توجه لجنودها  في سيناء، مروراً بالتخريب الأمني الذي تمارسه بعض الجماعات في الداخل. وتبدو هذه المخاطر داهمة وجدية، وهي تستهلك جهداً كبيراً من أجهزة الأمن ومن القيادة السياسية للتعامل معها.
غير أن المخاطر التي تؤرق القيادة في القاهرة، هي تلك المرتبطة بحياة الدولة، والتي تحتاج إلى قدر أكبر من التدبر والتحضير لمواجهتها. وهي تحديداً التي تدفع هذه القيادة إلى السعي الحثيث لتوقيع اتفاقيات تسلح مع روسيا.

لم يغب التعاون الأمني عن أي من الزيارات المتبادلة لأمنيين أو سياسيين بين الطرفين. ففي أيلول-سبتمبر عام 2013، أي قبل وصول السيسي إلى الرئاسة، بحث وزير الخارجية السابق نبيل فهمي في موسكو مع سكرتير عام مجلس الأمن القومي الروسي كولاي بارتشيف شؤون الأخطار التي تتعرض لها مصر، حيث كان الموقف الروسي مطمئناً بتأييدهم لفكرة "شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل"‏؛ وهي الفكرة التي عاد وأكدها الطرفان في تشرين الثاني – نوفمبر من العام نفسه، وبحضور السيسي نفسه، خلال اللقاء الذي جمعه إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الدفاع سيرغي شويغو في مقر الرئاسة المصرية، أمام الرئيس عدلي منصور. وبعد أقل من ثلاثة أشهر، قام السيسي يرافقه فهمي بزيارة موسكو، معلناً من هناك انطلاقة جديدة للتعاون العسكري والتقني العسكري بين مصر وروسيا بما يصب في منفعة الدولتين، مشيراً إلى التحديات الكبرى التي تواجهها بلاده. وخلال الزيارة عينها، بارك بوتين ترشح السيسي للرئاسة مدعماً ذلك بوعود للتعاون الاقتصادي والعسكري، ليكمل شويغو بأن تعزيز العلاقات العسكرية بين البلدين ينبع من التحديات والأخطار المشتركة، والتي يأتي الإرهاب في مقدمتها، ويشير إلى أن البلدين سيواصلان العمل المشترك لمنع وقوع أسلحة الدمار الشامل بأيدي العناصر الإجرامية.

في آب - أغسطس 2014، استقبلت موسكو السيسي بحفاوة بالغة، حيث بحث مع بوتين مجمل ملفات المنطقة والأخطار التي تحيق بمصر، وسبل مكافحة الإرهاب، وقد طغى على المباحثات الجانبان الاقتصادي والأمني، وهما الجانبان الأكثر حاجة لدى مصر. ثم أتت زيارة بوتين الأخيرة الى مصر يومي 9 و10 شباط – فبراير الماضي، ليتوّج المسار المتصاعد من العلاقات التي يبدو أنها تتحفز مع توافر "كيمياء" إيجابية بين الرئيسين.

لقد أنتجت الزيارة الأخيرة اتفاقات عديدة بين الطرفين، غير أن فعاليتها في الجانب الأمني بدأت بالظهور سريعاً، مع الإعلان عن حصول مصر على صواريخ S300 الروسية الصنع، فضلاً عن أمور أخرى لم تعلن، يرجح أن ترفع إلى معدلات أعلى نسبة الـ30% وهي حصة السلاح الروسي من الترسانة العسكرية الحالية للجيش المصري، خصوصاً مع الإعلان عن مشاركة مصر بمعرض "جيش 2015" الذي "تنظمه وزارة الدفاع الروسية بمشاركة عدد كبير من الشركات الروسية الكبرى المصنعة للأسلحة المتطورة وأحدث تكنولوجيات التسليح، فضلاً عن مشاركة منظمات بحثية وتكنولوجية متخصصة في مجالات التسليح والعتاد العسكري".

وأعلنت وكالة "سبوتنيك" الروسية أن "المشاركة المصرية تأتي بعدما وجّه وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، الدعوة لنظيره المصري صدقي صبحي خلال زيارته التي قام بها قبل أيام إلى روسيا، ومشاركته في الاجتماع الأول للجنة التعاون العسكري التقني المشترك. هناك دعا شويغو صبحي للمشاركة في منتدى "جيش- 2015"، ومشاركة الجيش المصري في الفعاليات والتدريبات العسكرية الأخرى التي تنظمها روسيا.

ووفقا لما أعلنته وزارة الدفاع الروسية، يقام منتدى "جيش- 2015" من 16 إلى 19 يونيو- حزيران 2015، وستشارك في هذا المنتدى الشركات الروسية المتخصصة في تصنيع الأسلحة، والمنظمات البحثية، والجامعات، والمطوّرون والمصنّعون للأسلحة والمعدات العسكرية، فضلاً عن شركاء روسيا الأجانب.

وأضافت الوزارة، أن روسيا ستعرض خلال هذا المنتدى حوالى 120 منظومة سلاح من معداتها العسكرية الحديثة والمتطورة، والتي تنقسم إلى ثلاث مجموعات رئيسية: برية وجوية ومائية، فضلاً عن نماذج من الأسلحة والمعدات العسكرية الخاصة الجديدة، والعمل على ترسيخ الإمكانات العلمية والتكنولوجية في مجال الابتكار.

لا شك أن روسيا لم تنس بعد الحال التي انتهت إليها علاقة الاتحاد السوفييتي بالسادات، ولذلك فهي حتماً تمد جسور العلاقة مع مصر بحذر وحرص شديدين، غير أن اتجاه العلاقة وتطورها السريع يشيران إلى أن روسيا وجدت مكمن الفائدة الكبرى منها، كما وجدت مصر فيها فرص تمتين أمنها واقتصادها، في طريقها لبناء الدور الجديد الذي تتطلع إليه قيادتها.

الميادين