بحثاً عن الشهيد

بالعربي: كتب عباس بيضون : رغم أن مسرحية «ألاقي فين زيّك يا علي» للينا الأبيض ورائدة طه لا تتفلسف، إلا أنها تبدو وكأنها دوران حول مفهوم «الشهيد». ليس فقط الشهيد في ازدواجه مع الأب والزوج والأخ. بل هو أيضاً الميت الذي لا تنقطع الصلة به بل يبدو تذكّره والانتساب إليه واجباً لا يعدو عليه الزمن. إنه أيضاً السوبر ميت، الميت الماثل دائماً ورائدة طه على كنبتها لم تفعل طوال وقت المسرحية سوى محاولة استعادته. لكن رائدة طه إبنة الشهيد علي طه وكاتبة النص وممثلة المسرحية الوحيدة كانت طوال الوقت تروي قصتها الشخصية ولم يكن في وسعنا نحن المشاهدين إلا أن نشعر بذلك. كانت على الكنبة الشبيهة بالأريكة التي يتمدّد عليها المريض النفسي وهو يسرد تداعياته أمامنا في حالة اعتراف، كان هذا الوضع بحد ذاته جريئاً، أن تمنح اعترافها هذا الجو الاحتفالي وأن تحتفل هي نفسها به، هل كان ذلك يحررها من وطأة الاعتراف حين يتحوّل إلى أداء وإلى تشخيص. أياً كان الجواب إلا أن المتفرّج لم يكن يجد نفسه أمام مجرد تمثيلية. هذا الجانب الشخصي كان يمنح العرض قدراً من الحميمية ويمنح الصلة بالجمهور القدر نفسه. كان لزوم رائدة للكنبة أو «الديفان» في محله، فنحن كنّا لا في مسرحية فقط بل في اعتراف احتفالي، هذا الاعتراف كان أيضاً يطالنا، كنا نصغي إليه لكننا مع ذلك كنا طرفاً فيه. بحث رائدة عن أبيها الشهيد كان يخصنا أيضاً ويعنينا بالدرجة نفسها. كان اعترافها يخرج أيضاً من صدورنا ومن دواخلنا. وحين وصلت رائدة إلى نقطة إخراج الشهيد من البراد، حيث احتفظ به الإسرائيليون عامين، تنفسنا نحن الصعداء. كان ذلك نوعاً من الانبعاث، كأنما تحرّر الشهيد من موته. نحن الذين كنا نريد أن يكون الاستشهاد أقوى من الموت وجدنا في هذه الحادثة ما يلائم مرادنا وما يحمل رمز الانتصار على الموت الذي هو سرّ الشهادة.

كان في المسرحية رائدة والمسرحية على نحو ما قصتها، رائدة تؤدي أمامنا حكايتها وحياتها. إنها تمثلهما. إنها الشخص وممثله. ذلك لا يطرح فحسب علاقتها بالجمهور، لكن بالدرجة الأولى علاقتها بنفسها. كان لا بد أن تخرج من نفسها، أن تترجم حالها. أن تحوّل مشاعرها إلى صور وإلى شخصيات، فعلت رائدة هذا ببراعة من دون أن تتنكر لحالها، كانت هي وكانت ممثلتها في آن معاً، كانت على الخيط الرفيع بين الإثنتين، تواجه حالها بقدر من الابتعاد يصل إلى حد السخرية، لكن حتى هذه السخرية تحمل طرفاً حميماً. كنا نخرج معها لكننا أيضاً نعود معها، نضحك بصوت عالٍ قبل أن نعود معها إلى تراجيدياها، كنا نتنفّس حين تقف لترمق بسخرية تفاصيل من مأساتها لكن الضحك ليس خالصاً وليس التنفس خالصاً. إن بيننا وبينها عهد بدأ مع المسرحية وسنبقى معها ومع بحثها عن أبيها، وسنبقى كذلك إلى أن تطفأ الأضواء وتختفي عن المسرح. لقد دعمنا رائدة وبالدرجة نفسها ندعم مسرحيتها