من يقرر مصير الفلسطينيين؟

كتب  د. لبيب قمحاوي : من يقرر مصير الفلسطينيين؟ سؤال مشروع في ظل ظروف غير طبيعية تسود الآن منطقة الشرق الأوسط عموماً والعالم العربي على وجه الخصوص، و أوضاعٍ غير مشروعة وغير إنسانية يحاول الاحتلال الاسرائيلي فرضها بأساليب إجرامية على الفلسطينيين . الفلسطينيون في مأزق، والعرب في مآزق معظمها من صنع أياديهم،  والاسرائيليون في مآزق داخلية واقليمية، وامريكا ومعها الغرب في مأزق أخلاقي وسياسي. جميع الاطراف المعنية في الصراع الفلسطيني _ الاسرائيلي، سواء مباشرة أو بشكل غير مباشر، في مأزق سواء أكان ذلك المأزق من صنع  أياديها أو مفروضاً عليها.

المأزق الفلسطيني يتمثل في محاور ثلاث هي : الاحتلال الاسرائيلي أولاً، و نهج أوسلو والسلطة الفلسطينية ثانياً، والفُرقة والانقسام الفلسطيني ثالثاً. وهذه المحاور الثلات تشكل في مجموعها المأزق الفلسطيني الحالي الذي يُلقي بظلال سلبية على  القضية الفلسطينية  نفسها .

إن التعامل مع هذه  المآزق الثلاثة  يشكل صعوبة كبيرة وتحديات مانعة كون القوى المؤثرة ليست محصورة بالفلسطينيين فقط، بل بقوىً عربية  و/أو إقليمية و/أو  دولية لها  مصالح في  بقاء الأمور  كما  هي بسلبياتها الملحوظة وظلالها القاتمة الجاثمة على الوضع الفلسطيني . ومع أن عنوان هذه المآزق فلسطيني، إلا أن القوى المؤثرة فيها وعليها هي قوىً غير فلسطينية، ولها بالتالي مصالحها الخاصة التي تأخذ أولوية على المصالح الفلسطينية أو متطلبات القضية الفلسطينية .

لقد أثبت العدوان  الاسرائيلي الاجرامي الأخير على  إقليم غزة الفلسطيني وما سبقه ويرافقه من اعتداآت مماثلة على الفلسطينيين  أن "اسرائيل"  قد أصبحت وحشاً عنصرياً وقوة إقليمية ضاربة تقتل وُتدَمِّر بلا تفكير أو رحمة أو انسانية في مسعى غامض لخدمة أهدافها بالإضافة إلى مصالح حلفائها خصوصاً  أمريكا في المنطقة العربية خصوصاً والشرق الأوسط عموماً . وهذا يشكل تهديداً حقيقياً لأمن جيران "اسرائيل"  في الاقليم كونه يؤكد تحوّل اسرائيل إلى مجتمع عسكري البنية عدواني النزعة والتوجه لا يؤمن بأي مسار ِسلْمِي كوسيلة لحل مشاِكلِهِ أو للوصول إلى أهدافه  الاستراتيجية .  ولا يقتصر هذا الموقف العدواني على الفلسطينيين بل اصبح  مؤخراً يتجاوز ذلك إلى  بعض دول الجوار مثل لبنان وسوريا واليمن حيث التعبير الوحيد في حوار اسرائيل مع هذه الدول هو التعبير بمفردات عسكرية تدميرية  .

لقد أثبتت الحرب إلاسرائيلية الدموية الأخيرة على إقليم غزة الفلسطيني أن العلاقات العربية – الفلسطينية تمّر بمأزق حقيقي . فالصراع مع اسرائيل انتقل من حالته الطبيعية باعتباره صراعاً عربياً – اسرائيلياً إلى كونه  صراعاً فلسطينياً – اسرائيلياً . وقد تم ذلك نتيجة لبعض الخيارات العربية السيئة سواء في نهج السلام  مع اسرائيل أو في التطبيع معها،  وكذلك نتيجة للخيار الفلسطيني في الذهاب إلى أوسلو والاتفاق مع اسرائيل متجاهلاً أهمية الغطاء العربي وبالتالي الدور العربي . لقد كان ذلك الخيار الفلسطيني تحت قيادة ياسرعرفات مماثلاً في أصوله لسلوك باقي الأنظمة العربية من زاوية إعطاء الأولوية للمصلحة القطرية لهذه الدولة أو تلك أو هذا النظام أو ذاك متجاوزة  أية  قيود  مبعثها الرابطة والمصلحة القومية،  وتَحَوَّل الدعم العربي بذلك من دعم عسكري إلى دعم سياسي لينتهي الأمر بالدعم الانساني حصراً  وهو في واقعه البديل العربي الحالي للدعم العسكري أو السياسي النشط والمباشر والمؤثر، كما أنه مؤشراً على الإنسحاب العربي الفعلي من القضية الفلسطينية  والاكتفاء  بالتأييد اللفظي والشكلي للفلسطينيين .

على ضوء ما جرى من عدوان تدميري وقتل ُمنهج للفلسطينيين في إقليم غزة وإلى حد ما في الضفة الفلسطينية، وعلى ضوء الصمود البطولي والتضحيات الهائلة للفلسطينيين، وبالرغم من ضعف وهزالة الموقف العربي، فإن حقائق العلاقة بين العرب والفلسطينيين قد أصبحت واضحة ومثبتة قولاً وفعلاً . وفيما يلي أهم شواخص هذه العلاقة الآن :-

أولاً :الفلسطينيون  كما أثبتت الحرب على إقليم غزة  لا  يريدون  مغادرة  وطنهم فلسطين إلى أي بلد آخر مهما كانت  الضغوط  أو الاغراآت .

ثانياً : الفلسطينيون بالتالي لا يريدون أن يستوطنوا أي بلد عربي آخر وأن مغادرتهم  فلسطين في السابق كانت مؤامرة  أصولها  وأدواتها  وأهدافها باتت  معروفة، وأنها كانت خطأ تاريخياً لن يَسْمحَ  الفلسطينيون بتكراره .

ثالثاً: لا داعي ولا حاجة لأي دولة عربية أن تُعَامِل الفلسطينيين بإجحاف خوفا من تنازلهم،  أي الفلسطينيين، عن حق العودةً  وبقائهم في بلدان اللجوء، في حين أن مثل هذا  التنازل  قد يأتي من خلال صفقات مشبوهة مثل "صفقة القرن" بين العرب واسرائيل أو العرب وأمريكا وليس من ِقبَل الفلسطينيين أنفسهم  . الفلسطينيون لا يريدون سيناء المصرية أو الأردن أو لبنان أو أي دولة أخرى بديلاً عن وطنهم فلسطين، ولن يهجروا وطنهم فلسطين مهما حصل .

رابعاً: في حين أن الشعوب العربية هي الداعم الحقيقي للقضية الفلسطينية، فإن التآمر الرسمي العربي مع اسرائيل وأمريكا على الفلسطينيين  قد يكون احتمالاً  أكثر واقعية في خطورته على الفلسطينيين وقضيتهم . ومع ذلك فإن عدو الفلسطينيين يبقى هو العدو الاسرائيلي وليس الشقيق العربي، مع أن ظلم ذوي القربي قد يكون أشد مضاضة، ولكن هكذا يجب أن تجري الأمور الآن، وهكذا يجب أن تتم ادارة العلاقات مع الأشقاء العرب والصراع مع العدو الاسرائيلي في المرحلة الحالية .

خامساً: السلام  والتطبيع والتعاون العربي – الاسرائيلي سواء المعلن أو المخفي هو بالنتيجة طعنة للفلسطينيين الذين لم يكسبوا شيئاً من ذلك السلام أو التطبيع، ولم  يساهم أي من  ذلك في إزالة الاحتلال ولو جزئياً أو ينجح في الضغط الفعال على اسرائيل لوقف برنامجها الاستيطاني وعدوانها  وجرائمها في  حروبها المختلفة ومنها حربها الأخيرة على إقليم غزة والضفة الفلسطينية، بل على العكس ربما تكون قد ساهمت، ولو جزئياً، في تخفيف الضغط الدولي على اسرائيل والحصار البحري المفروض عليها جزئياً الآن.

سادساً: بالرغم من كل ما سبق، فمعركة الفلسطينيين الآن هي مع اسرائيل وحلفائها  وليس مع العرب، وإن كان الأمل أن يأخذ  حكام العرب موقفاً مماثلاً لهذا الموقف الفلسطيني بالنسبة لإسرائيل باعتبارها العدو الحقيقي والفعلي للعرب ومصالحهم مهما كانت إتفاقات بعض العرب مع ذلك العدو، أو متطلبات المصالح الضيقة الآنيَّة لتلك الأنظمة العربية المعنية .

سابعاً: التغيير في الموقف العربي جاء للأسف إيجابياً تجاه اسرائيل، وسلبياً تجاه الفلسطينيين، وكأن الصلح أو التطبيع مع اسرائيل كان يتطلب التنصل من الفلسطينيين وقضيتهم، أو حتى ُمنَاصبتهم العداء بالنسبة للبعض الآخر.  حيث تمادت بعض الدول العربية الى الحد الذي أصبح فيه ذكر اسم فلسطين والفلسطينيين خارج إطار سياسة الدولة أمراً يستوجب العقاب .

الآن وقد أثبت الفلسطينيون بالفعل وليس بالقول أن لا مطامع لهم في أي دولة عربية سواء أكانت مضيفه لللاجئين أم لا، وأن الفلسطينيين مصممون على الدفاع عن حقوقهم وقادرون على دفع الثمن، وانهم لا يريدون أن يكونوا عالة ًعلى أحد بعد أن قبض مَنْ قبض وَصَرف مَنْ صرف من العرب والفلسطينيين على حساب قضية فلسطين .  المطلوب الآن أن يقوم العرب فعلاً وليس قولاً  بتغيير سياستهم  ومواقفهم  تجاه  الفلسطينيين  ووقف أي تعاون مع اسرائيل على حساب الفلسطينيين وقضيتهم .

ويبقى السؤال، من يقرر مصير الفلسطينيين؟ الاجابة الوحيدة المعقولة والمقبولة  تؤكد أن  الفلسطينيين أنفسهم والفلسطينيين  فقط هم الذين يحق لهم ممارسة حق تقرير مصيرهم بأنفسهم طبقاً  للقانون الدولي، وخلاف ذلك فإن الحلول والاقتراحات المتداولة  الآن عربياً  ودولياً،  خصوصاً تلك المتعلقة بمستقبل إقليم غزة والضفة الفلسطينيية، تأتي منسجمة مع المطالب الاسرائيلية و مع المسار الاستعماري ومنطق القوة السائدين حتى الآن في تعامل العالم مع القضية الفلسطينية،  الأمر الذي يستدعي رفض الفلسطينيين لمثل تلك الحلول واستمرار مقاومتهم الفعالة والدائمة بكافة الاشكال للاحتلال الاسرائيلي لوطنهم فلسطين .