اليمن بديلاً من البحرين

بالعربي: في آذار من العام 2011، حُطِّم مُجسّمٌ يتألف من ستة أضلاع تعلوه لؤلؤة في العاصمة البحرينية المنامة، توازياً مع عبور المئات من عناصر «قوات درع الجزيرة» جسرَ الملك فهد، الرابط بين البحرين والمملكة العربية السعودية. أُرادت سلطات المنامة عبر استعانتها بـ«قوات درع الجزيرة»، وأدَ الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاح السياسي في البلاد. ومن خلال هدمِها المُجسّم الذي بُني قبل ثلاثة عقودٍ أثناء انعقاد ثالث قمّة خليجية، شاءَت الحكومة جرفَ رمزية الميدان مركز الاحتجاج، وإعادة التذكير بالاسم الرسمي له: «دوّار مجلس التعاون الخليجي».

لم تفلح سلطات البحرين بإخماد الاحتجاج تماماً، برغم نجاحها في احتواء دينامياته نسبياً. وما ساعدها على ذلك جملة من العوامل، أوّلها إبراز التقاطعات بين بعض قوى المعارضة المحلية وطهران، توطئة لاتهامها بالتبعية، ومن ثم البناءُ على التهمة تلك للاستنجاد بقوات عسكرية من سائر دول الخليج، المهجوسة بتمدد النفوذ الإيراني في جوارها.

والتقاطعات المذكورة تلك بين جزء من المعارضة البحرينية وطهران أمرٌ لا ريب فيه. بيد أنها لم تكن تختزل الصورة كلها، كما حاولت السلطات البحرينية أن توحي، ولا كانت تنفي شرعية أي من مطالب المحتجين.

على أن تنوّع الصورة وشرعية المطالب، في المقابل، لم يكونا يعنيان غياب البعد الإقليمي للمسألة. فالحراك البحريني، برغم محلّية انطلاقته و«وطنية» شعاراته، شكّل اختباراً لقدرات قوى الإقليم المعنية بشؤون الجزيرة، تحديداً إيران والمملكة العربية السعودية. واختبارُ القدرات هذا لا يحتاج إلى نوايا أو «مؤامرات» حتى يتبلور. إنه من طبيعة الأمور. فهو نتاج تلقائي لصراع المصالح بالمعنى الجيوسياسي الأوسع. وهو، برغم نشأته وقيامه على دينامياتٍ محلية، شكّل فرصة للخصوم على مستوى المنطقة للنفاذ إلى ساحة خلفية لهم (إيران)، أو لتثبيت حضورهم في الساحة تلك (السعودية).

وقد برزت في البحرين مجموعة من العوامل الموضوعية التي سمحت للرياض بتسجيل نقطة غير مكتملة لمصلحتها في مواجهة طهران، علماً أن الأخيرة عرفت كيف «تنكفئ»، حتى لا تكتمل النقطة المسجّلة في مصلحة خصمها السعودي. أول العوامل يتصل بالشّح الديموغرافي في بلد يقلّ عدد مواطنيه عن 700 ألف (وفق أرقام الأمم المتحدة، يبلغ عدد سكان البحرين نحو مليون و350 ألف نسمة، حوالي 55 في المئة منهم أجانب). وهذا ما لا يمكن معه احتمال «معركة» استنزافٍ طويلة الأمد، حيث أن أي تصعيد يتخطى السقف الواقعي للأمور (متمثلاً بشعار «إصلاح النظام»، لا «إسقاطه»)، قابلٌ للامتصاص السريع، ويمكن لحملات دهم واعتقال إن طاولت بضعة آلافٍ من الناشطين أن تقضي عليه (حصل شيء شبيه بذلك). والعامل هذا، معطوفٌ عليه طبيعة المجتمع البحريني «المدينية»، حيث يتركّز معظم السكان في المدن (89 في المئة وفق أرقام الأمم المتحدة)، وغياب التحديات الأمنية الجدية في البلاد، واحتصان البحرين قاعدة عسكرية أميركية وأخرى بريطانية، كلها أمور تجعل الحراك «مدنياً» بالضرورة من جهة (لحسن الحظ)، ومحكوماً بكثير من القيود من جهة أخرى (لسوء الحظ).

لذلك، لم تكن البحرين، بحكم ظروفها الموضوعية، ساحة جدّية لصراع النفوذ بين الرياض وطهران. في المقابل، كانت ساحةٌ أخرى، تحمل كل عوامل النزاع الجدي والمؤثر في موازين المنطقة، تنتظرُ إشعال الفتيل. هكذا، شكّل اليمن ميداناً نموذجياً لمنازلة الرياض. ففي حين كان موقف طهران في كلٍ من العراق وسوريا دفاعياً، كان اليمن مخوّلاً أكثر من البحرين بأشواط، للعب دور الحصان الرابح لها، وتعويض الحالة الدفاعية في المشرق العربي بأخرى هجومية في أكثر المناطق حساسية للسعودية، أي الخاصرة الرخوة التي خاضت في سبيلها، بالوكالة، صراعاً مريراً مع الجيش المصري في ستينيات القرن الماضي.

وقد اشتمل اليمن على جملة من العوامل المساعِدة على منازلة من هذا النوع. أولها يتصل بكونه أكبر خزان بشري في شبه الجزيرة العربية (25 مليون و500 ألف)، وثانيها ببنيته السكانية الريفية-القبلية، الأكثر نزوعاً للقتال مقارنة بالبنية السكانية المدنية (أكثر من 65 في المئة من السكان يعيشون في الأرياف وفق أرقام الأمم المتحدة)، وثالثها بالانتشار الهائل للسلاح بين السكان (نحو ستين مليون قطعة سلاح وعشرين سوقاً لبيع أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة)، ورابعها بالفوضى الأمنية والمواجهات العسكرية في بعض المحافظات، وهي مواجهات سابقة على الإطاحة بالرئيس السابق علي عبد الله صالح، تحديداً في صعدة، معقل الحوثيين الأول، ومحافظات الجنوب حيث ينشط أحد أبرز فروع «القاعدة» في العالم، قبل أن يدخل تنظيم «داعش» مؤخراً على خط منافسته.

هكذا، أدرك الطرف الإيراني، مبكّراً، أن توظيف هذه الحقائق ونجاح استثماره في الظاهرة الحوثية التي استطاعت تجاوز قطوع ستة حروب مع السلطات اليمنية منذ العام 2004، يحتاج إلى جهودٍ مضنية ونفسٍ طويل، بيد أن نتائج هذا الاستثمار، لحظة نضوجها، بالغة الأهمية على مستوى تحديد الأوزان في الإقليم. في المقابل، تعاملت السعودية مع المسألة بقدرٍ من الاستخفاف الذي يعكس رؤيتها لليمن كجارٍ ضعيف، لا حول له ولا قوة، ولا تهديد منه ولا منفعة تُرجى.

وبذلك، أصبحت موازين القوى في اليمن تميل اليوم بشكل كبير لصالح حلفاء إيران. فيما جاء التهويل باحتمال تدخل قوات «درع الجزيرة» في اليمن، كما حصل في البحرين، خارج سياق المنطق تماماً.

فحالة اليمن تختلف عن حالة البحرين. وظروف البلاد الموضوعية تسمح لميدان الحرب أن يحل مكان دوّار اللؤلؤة كفيصل في النزاع، بشرط ألا يتخطى ذلك الخطوط الحمر التي ترسمها الدول الكبرى، والتي يتعلّق جانب منها بأمن الأنظمة الخليجية أولاً وقبل كل شيء.