هل يمكن للروائي أن ينجز عملاً جيداً من دون معرفته باللغة العربية؟

بالعربي: أثارت تصريحات لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) حول أسباب عدم اختيار بعض الأعمال في القائمة القصيرة للجائزة، الكثير من الانتقادات، فقد أشار أعضاء اللجنة إلى أن اللغة كانت من أهم هذه الأسباب، مثل ضعف المستوى اللغوي للكثير من الأعمال المشاركة، فضلاً عن الأخطاء النحوية والإملائية التي تعاني منها الكثير من الروايات العربية؛ التي وصلت للجنة الجائزة والموجودة في المكتبات عموماً.

هذه التصريحات سببت لغطاً كبيراً بين عدد كبير من الروائيين؛ العرب والعراقيين، معتبرين اللغة شيئاً ثانوياً بالنسبة لأي عمل إبداعي مقابل التقنيات والمبنى السردي. بعض الروائيين العراقيين كتبوا مقالات عدَّة معترضين على هذه اللجنة، وفي الوقت نفسه كان عدد آخر فرحاً بالتقرير الذي اعتبروه انتفاضة للغة العربية ومحاولة لترويض الروائيين من أجل الاهتمام بها وتعلمها بالشكل الصحيح والأكاديمي، وهو من أوليات المبدع قبل الشروع بأي عمل إبداعي.
لكن، هل اهتمت الرواية العراقية بلغتها؟ وهل تمكنت من بناء لغة سردية خاصة بها، مع عدم إهمال النحو والأخطاء الإملائية؟ هذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه من خلال آراء بعض النقاد والروائيين العراقيين:

الكتابة والتفكير

يرى حسن سرحان أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، مبيناً أنه لو اقتصرت وظيفتها على هذا الجانب، لما أثار العبث بها حفيظة أحد. تجرف اللغة في مسارها كل إرثنا الثقافي والفكري فتحوله إلى ذاكرة تختزن ما أنتجه الذهن البشري منذ قرون. «منْ يعتني بلغته، يعبّر، ضمناً، عن إرادة في حفظ هذا الإرث ومن يسئ إليها يقدم دليلاً على استهانته بتراثه واستهتاره بملكيّته الثقافية». ويضيف سرحان أنه عند يتعلق الأمر بالأدب، يكتسب موضوع اللغة أهمية خاصة، ذلك أن النص الأدبي، بالأساس، تجسيد مادي لظواهر لغوية نوعيّة يفترض بها أن تكفل بناءَ نظامٍ متماسكٍ من العلامات التي ينشأ عنها المعنى ويتشكل منها الجوهر. معنى هذا أن الأدب يكمن في اللغة لا في سواها لأنها، بحسب رولان بارت، «كينونة الأدب وعالمه».
سرحان يرى أنه لا جدال في أن الرواية العراقية الراهنة قد غيّرت من طبيعة خطابها اللغوي إذ تنبّه مبدعوها، أو قسم كبير منهم، إلى تجنب الوقوع في فخ إعادة إنتاج اللغة الروائية التي كتب بها منْ سبقهم من روائيي القرن الماضي. إن ترسيخ الخطاب الروائي استناداً إلى اللغة المأثورة يبدو اليوم للعديد من الروائيين العراقيين الحاليين عقبة يجب تجاوزها، إذا أُريدَ للرواية أن تكون انعكاساً كاملاً ومتنوع الأشكال لروح العصر. لا بد من الإشارة إلى أن الاهتمام باللغة الروائية ليس مظهراً عاماً في كتابات روائيي زمننا الحاضر من المبدعين العراقيين، إذ أن بعضهم لا يمتلك، أصلاً، وعياً بأهمية اللغة ولو بحدود علاقتها بإضاءة حضور المعنى. هذا الجهل أدّى إلى أن تكون الصياغة اللغوية لنصوص بعض كتّابنا بائسة، فقيرة، كثيرة الأغلاط، مشوشة، مرتبكة، ملتبسة المقاصد وغير واضحة الدلالات. تغيب عن بال هؤلاء حقيقةُ عدم وجود فكر واضح من دون لغة واضحة ويغفلون عن ملاحظة أنّ منْ يكتب بشكل سيئ لا يفكر، أبداً، بطريقة صحيحة.

تحولات اللغة

يوضح الروائي ضياء الخالدي أن لغة الرواية العراقية بعد عام 2003، بدت أكثر خفة، وتمثيلاً للمعنى. وهذا جاء عبر تشخيص دقيق لسرودات سابقة حملت ترهلات لغوية زاحمت الخيال، فمنعتنا من رؤية المشهد بتفاصيل كاملة، وبالتالي ابتعاد الشخصيات عن السمات الإنسانية، وقوتها في ترسيخ إقناع تام بما يروى. مضيفاً أن اللغة التي نراها مؤثرة، تلك التي ترافق الخيال في رحلته ولا تتقاطع معه. تنبع من حدس سليم بما نملك من فكرة وموضوع وإدراك واضح لطبيعة الفن الروائي، هذا التمثيل للمعنى، تجذّر باستفادة قصوى من لغة الريبورتاج الصحافي أيضاً، وهذا ليس ضعفاً كما يتبادر للبعض، ممن ركنوا إلى اللغة في تشييد أعمالهم الروائية، بل فك أسر الخيال، وتركه يرسم مسارات الأحداث والشخصيات. «الرواية اليوم هي خلطة فريدة مما هو ثقافي وتاريخي واجتماعي، ومعارف إنسانية أخرى، وهذا لن يتشكّل في بنية فنية لها قوانين واشتراطات صارمة كالرواية، إلّا بنسيان الانبهار اللغوي والزخارف التي تتبعه».
ويتحدث الخالدي عن جائزة بوكر هذا العام، التي كان أساس الحكم على الأعمال الروائية فيها من خلال جودة اللغة، أي القدرة على امتلاك لغة سليمة خالية من الأخطاء النحوية والإملائية. قائلاً إن إجادة الروائي للغة، تعد من الأولويات، ولكنها ليست الوحيدة لتقرر جودة الأعمال الإبداعية، فلا يمكن نسيان الخيال والموهبة والحرفة في صنع عمل فذ. كل تطرف في ترجيح قيمة على أخرى ينتج إرباكاً في تقييم حقيقي. «طبعاً، هنا نتحدث عن الحد اللائق للأخطاء النحوية في العمل المشارك بالمسابقة، ولو افترضنا أن هناك روايتين، الأولى ذات قيمة فنّية عالية بأخطاء نحوية مقبولة، وثانية أقل فنّية بلغة سليمة تماماً. من نرجح لانتقالها إلى القائمة الطويلة أو القصيرة؟ برأيي، أن الأولى تستحق العبور إلى المرحلة المقبلة».

حواجز الروايات

من بين الآراء المغايرة في هذا الموضوع، يؤكد الروائي خضير فليح الزيدي أن «العراق رواية.. لكنه رواية مختلف عليها كثيراً».. في هذا المفتتح المختزل للحديث عن لغة الرواية العراقية ومدى فاعليتها وتأثيرها ونجاحها محلياً أو عربياً.. السؤال يتبلور عن الوظيفة اللغوية في الأدب السردي عموماً والروائي خاصة، فهو بحاجة إلى كشف النقاب عن مكنونات ذلك التوظيف اللغوي.
لا يخفى على المتتبع لحراك الرواية العراقية الحالية، فهو ذلك الحراك الكمي الذي لا يحسب لاختيارات اللغة إذا ما سلمنا أن الأدب عموماً هو «اختيار من لغة».. ولكن هل استطاعت اللغة الروائية العراقية الحالية التفرّد في انتقاء اللغة التي حلقت فوق ما هو يومي من دون الوصول إلى فضاء الهوام بكل ما يعنيه الهوام من انزياحات لغوية وإطنابات بلاغية تعتني بالزخرف اللغوي دون العناية بالوظيفة الخطابية الكلية لها.
ويشير الزيدي إلى الرواية المصرية؛ على سبيل المثال، التي اختارت لغتها من المتراكم الكمي للموروث السردي الروائي لها، ونهجت برشاقة على مساره، غير أن التوظيف اللغوي الروائي في العراق ما زال مرتبكاً في نوعية ذلك التوظيف واختلاف وجهات النظر في تطويع اللغة الروائية بعراقية تمتلك مقومات إضفاء الروح العراقية على المستخدم منها، من دون الوقوع في مستنقع اللفظ الشعبي الجاف والمختلف عليه.. فمن (16) رواية عراقية وصلت رواية «ريام وكفى» الوحيدة لقائمة البوكر الطويلة للعام الحالي 2015، وحسب رأي مريد البرغوثي رئيس لجنة حكام جائزة البوكر، فقد كانت اللغة الروائية حاجزاً لم يعبره الكثير من الروايات العربية.. ورغم تحفّظ البعض على هذا الرأي، لكنه يبقى يمتلك مقومات الوثوق بمقومات الرواية الناجحة، كما هي لغة حمور زيادة السوداني الشاب في روايته الناجحة لغوياً في عصرنة لغة التراث وتوظيفها الناجح في روايته التي وصلت قصيرة البوكر.. لكن بالمقابل تحتاج الرواية الناجحة إلى مقومات واشتراطات أخرى للنجاح والتربع على ذهبية الجوائز ودهشة القراء.

مهارة الإيصال

وفي فحصه للرواية العراقية خلال السنوات العشر الماضية، يشير الروائي ضياء جبيلي إلى أن الرواية العراقية تخلت عن الكثير من العوائق اللغوية، التي كانت تقف أمام فهم القارئ للنص، ولعل أهمها وأكثرها شيوعاً هو أسلوب التعمية، لغة الخفاء والالتباس المنمقة والمزخرفة، في وقت– خصوصا خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي– كادت الثيمة تكون شبه معدومة، وإن وجدت فإنها لا تكون في النهاية أكثر من كونها إيحاء، أو إحالة إلى موضوع آخر عمل الروائي على تضليله بداعي الهروب من تابو معين… أما الآن، فـ»أعتقد أن الرواية العراقية انطلقت إلى توظيف لغة مختلفة، لغة لا تعبأ بالبهرجة والتنميق، لغة تخلصت من بلاغتها، وطغيانها الذي كان يفقد الرواية صعود الثيمة وتطور الأحداث، عندما كانت اللغة لا تهتم إلا بنفسها، بشعريتها، وفرط حلاوتها». ويضيف: فاللغة الآن، أصبحت تطمح إلى تحصيل مهارة الإيصال بطريقة لافتة، تثري فهم القارئ وتدفعه إلى ما ينشده، بينما هو يقرأ رواية، الأمر الذي يشكل السمة الأبرز في الكثير من الروايات العراقية، تلك التي عنت بتقديم لغة ناصعة نوعاً ما، تحفل بالمفاهيم والتوجهات الجديدة، وتعي، بالشكل الذي يظهر كفاءة الروائي، التطور الذي طالما قصت الرقابة ريشه، وعندما حان الوقت لمواكبته ظهرت البوادر الجديدة لفن روائي مختلف، كانت ملامحه قد بدأت باللمعان في مجموعة من الروايات العراقية التي حازت قدرا جيدا من الاهتمام، ووصلت إلى مراحل متقدمة. ولعل أهم سمات تلك الروايات هو ابتعادها عن لغة الالتباس، لتؤكد ضجر القارئ الذي لن يكون مستعداً على أي حال لأن يكون حريفاً بما يكفي، ليتحول إلى فاتح شفرات.

بهرجات بلاغية

أما الناقد أمجد نجم الزيدي فيبين أنه لا يمكننا تقديم رؤية واضحة عن الرواية العراقية، خاصة ما يتعلق باللغة والنحو، وذلك للكم الهائل الذي طبع في الآونة الأخيرة، إذ طبعت الكثير من الروايات على النفقة الخاصة، وعن طريق دور نشر جديدة لا تهتم إلا بالجانب المادي، وتعتمد على الكاتب في التدقيق والمراجعة، لذلك تظهر الرواية وهي تحمل الكثير من الأخطاء اللغوية والفنية، وهذا ربما ينسحب أيضاً في أحيان كثيرة على بعض دور النشر المعروفة، إذ أن تلك الدور لا تعتمد أكثرها على محرر أو مدقق لغوي، إن كان الكاتب يطبع كتابه على نفقته الخاصة، وهذا ما يؤثر سلباً على ما تقدمه تلك الدار لأننا نصطدم بحجم الخراب اللغوي والفني في تلك الكتب أو الروايات، وهذا يرجع؛ ربما، إلى الاهتمام بالجانب النفعي، من دون الالتفات إلى قيمة العمل، لذلك «لا أعتقد أن الرواية العراقية بمجملها قد اعتنت بلغتها، وإنما هناك بعض الروايات التي اعتمدت على جهد كتابها الذي يملكون خبرة لغوية، أو الذين يعتمدون على متخصصين باللغة والنحو، وغياب تلك الرؤية الواضحة عن كم الروايات العراقية المطبوعة ينسحب أيضاً إلى صعوبة حصر التقنيات اللغوية التي يشتغل عليها الروائي العراقي الحديث، وهي أيضاً متنوعة، ولكن يمكننا تأشير بعض تلك التقنيات في بعض الروايات، لانه وسط هذا الكم بالتأكيد تبرز روايات متميزة على صعيد اللغة والتقنية»، إذ إنها غادرت اللغة الشعرية ذات البهرجة البلاغية واعتمدت على اللغة التقريرية المباشرة، وإن استبدلتها بحسب الناقد العراقي علي كاظم داود بـ(شعرية الحدث السردي)، و»هذا برأيي على أقل تقدير انتقالة كبيرة على صعيد البناء والرؤية الفنية للرواية، أي أن الروائي العراقي الحديث يتجنب التقنيات اللغوية المعقدة ويميل إلى البساطة من حيث انتقاء التعبيرات أو التراكيب اللغوية، وهذا ربما يكون توجها عاما للرواية العربية والعالمية الحديثة».

فخ الجوائز

الجوائز والمسابقات الأدبية؛ بحسب رأي الروائي سعد محمد رحيم، بقدر ما هي محفزات لتنمية الإبداع هي فخ.. يُنشِّط المناخ الثقافي والأدبي، لكن قد يقع في حبائلها كثر من الأدباء فيكونون ضحاياها.. يسطو على أذهانهم هاجس الجوائز والمسابقات، ويتخيلون معايير الفوز التي تعتمدها لجان التحكيم فيكتبون وفقها، وأخيراً تأتي كتاباتهم مفتعلة، لا تعكس حقيقة موهبتهم. أي أنهم مع مثل هذه النصوص المصطنعة، المصنوعة لأجل المسابقات، لن يكونوا أنفسهم.. صحيح أن الجوائز تمنحك فرصة الانتشار وأحيانا تحسِّن من وضعك المالي، لكن دع لجان المسابقة تلتفت لما في عملك من قيمة إبداعية وجمالية. وإن لم تفز فهذا لا يعني أن الخلل بالضرورة في نصك الروائي.. أما بصدد اعتماد اللغة معياراً في تقويم العمل الأدبي فأقول إن الروائي لابد أن يكون متمكناً من لغته إملاءً ونحواً وصرفاً وقادراً على صياغة الجمل الصحيحة.. ولكن الإمساك بناصية اللغة وحدها لا يكفي للحكم على النص الروائي، فهناك الأسلوب والرؤية وبناء الأنساق السردية والمتن الحكائي، وهي العناصر التي تجعل ذلك النص متماسكاً مشعاً ومدهشاً.. في مقابل أن هذه العناصر من غير اللغة السليمة، بالحدود الدنيا المقبولة، تضعف وتجف.. الرواية لغة أولاً، غير أنها ليست قطعة لغوية وحسب. ولا قيمة لها إنْ أضحت إنشاءً محضاً من كلمات وجمل صحيحة بمقاييس قواعد اللغة ونحوها، لكنها فاقدة للطراوة ونبض الحياة.
الرواية عالم حي في النهاية، مشيّد باللغة، ومسكون بكائنات حية، ومؤثث بأشياء أخرى. هذه شروط وجودها، ومن غيرها لن تحوز على بعدها الجمالي.. وباختصار شديد؛ الرواية جمال ومن غير اللغة المتعافية المشرقة لا جمال هناك.

صفاء ذياب