قد لا يكون الوقت المناسب.. هل السعودية مستعدة لتحمل فاتورة التطبيع الآن؟

بالعربي: يسير قطار التطبيع بين السعودية و"إسرائيل" بخطى متسارعة للغاية، متخطيًا في ذلك العديد من المحطات التي كان من المفترض أن يتوقف عندها ولو قليلاً، ليثير العديد من التساؤلات في مخيلة البعض عما يدار حقيقة تحت السطح على مستوى هذه العلاقة التي تتوطد كل يوم مقارنة بالذي يسبقه.

البعض يرى أن المصالح المشتركة التي تجمع بين الرياض وتل أبيب فيما يتعلق بالموقف من إيران ربما تقود إلى توافق تام بين البلدين، وهو دافع قوي ربما يجد له أرضية شعبية وحاضنة جماهيرية تخفف من وطأة التحول في المواقف خاصة من الجانب السعودي، غير أن آخرين ذهبوا إلى أن قطار التطبيع يجب أن يتوقف عند محطة الخفاء حتى إشعار آخر مرهونًا بحزمة من المعايير والعوامل الأخرى وإلا فإن سرعته الجنونية ربما تقوده إلى الخروج عن القضبان ومن ثم نتائج غير مستحبة للجميع.

مغازلة إعلامية متبادلة

"هناك توافق تام بيننا وبين المملكة العربية السعودية والتي لم تكن يومًا من الأيام عدوة أو قاتلتنا أو قاتلناها"، جسد هذا التصريح الصادر عن رئيس أركان جيش الاحتلال  الجنرال غادي إيزينكوت، خلال مقابلة له مع صحيفة "إيلاف" السعودية، في الـ16 من نوفمبر الحاليّ، حجم ما وصل إليه التنسيق بين البلدين.

وبعد 4 أيام فقط من تصريح الجنرال "الإسرائيلي" للصحيفة السعودية الذي اعتبره البعض مغازلة صريحة للرياض، وخلال حديث له عقب مؤتمر عقد في باريس قال وزير العدل السعودي السابق محمد بن عبد الكريم العيسى لصحيفة "معاريف" العبرية: "الإرهاب باسم الإسلام غير مبرر أينما كان، بما في ذلك في "إسرائيل"، مما فسره محللون كونه انتقادًا علنيًا نادرًا من قلب السعودية للهجمات التي تستهدف "إسرائيليين".

وفي شهر يوليو الماضي، ولأول مرة في تاريخ البلدين، ظهر مدير مركز أبحاث من جدة، عبد الحميد حكيم، على القناة العبرية الثانية، للحديث مباشرة من السعودية عن الأزمة الخليجية وحصار قطر، ومن الواضح أن ظهور الحكيم على إحدى وسائل الإعلام العبرية مباشرة من جدة لم يكن من قبيل المصادفة، فالأمر يبدو أنه كان مدروسًا بعناية فائقة، خاصة أن الرسائل التي بعث بها الضيف السعودي خلال هذا اللقاء صبت جميعها في صالح الأهداف "الإسرائيلية" وهي دلالة واضحة تعكس حرص الرياض على مزيد من التقارب مع تل أبيب.

تطبيع شامل

سجلت الأعوام الثلاث الأخيرة على وجه التحديد تقاربًا غير مسبوق في العلاقات بين البلدين على المستويات كافة، كاشفة تخلي السعودية عن العديد من اللاءات التي طالما رفعتها قبل ذلك وعلى رأسها التطبيع مع دولة الاحتلال، لتقفز قفزات متسارعة نحو تعزيز صور التعاون مع الكيان الصهيوني خاصة مع قدوم محمد بن سلمان.

رحلة المملكة نحو التطبيع شملت كل الجوانب تقريبًا، فعلى المستوى السياسي لم يقتصر الأمر على زيارة لمسؤولين سعوديين "سابقين" إلى تل أبيب، كمدير الاستخبارات السعودي السابق تركي الفيصل والجنرال المتقاعد أنور عشقي، لكن اليوم بات الحديث يدور بشأن مسؤولين سعوديين حاليين على رأس الهرم السياسي للمملكة، كما جاء على لسان بعض المصادر "الإسرائيلية"، بأن المسؤول السعودي الذي زار "إسرائيل" سرًا في شهر سبتمبر الماضي هو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

هذا بخلاف ما تردد بشأن وثيقة سرية مسربة لوزارة الخارجية "الإسرائيلية"، نشرتها القناة التليفزيونية العاشرة العبرية يوم 7 من نوفمبر الحاليّ، عن مطالبة سفراء تل أبيب حول العالم بدعم موقف السعودية في حربها في اليمن، تقابلها وثيقة سعودية أخرى تم تسريبها مؤخرًا، وهي عبارة عن رسالة موجهة من وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، إلى ولي عهده، تناولت خلاصة مباحثات وتوصيات عن مشروع إقامة علاقات بين السعودية و"إسرائيل"، كاشفة إجمالًا حجم التنازلات التي تنوي الرياض تقديمها في سياق تصفية القضية الفلسطينية.

الخبير في الشأن الصهيوني عدنان أبو عامر في تصريحات سابقة له لـ"نون بوست" قال: "السفارة الإسرائيلية في الرياض على الأبواب"، وذلك في ضوء تعليقه على نشر الناشط والصحفي الصهيوني بن تسيون صورًا له داخل الحرم النبوي في المدينة المنورة.

أبو عامر اعتبر أن وصول اليهود للأماكن الدينية الحساسة للمسلمين هو اختبار جديد لحساسية الرأي العام، واستكشاف لردود الفعل من السعوديين بالذات، استعدادًا للخطوة التالية، وهو ما أشارت إليه الناشطة في حركة المقاطعة وعضو المجلس البلدي في محافظة الخليل سوزان عويوي بقولها "ليس من المستهجن مشاهدة ذاك الصهيوني يتجول في أقدس الأماكن الإسلامية وسط حالة الانقلاب الفكري العلني التي تشهدها سدة الحكم في السعودية".

 

وبشأن تدرج العلاقة قالت عويوي: "غالبًا فإن تلك العلاقة المشوهة بين السعودية والكيان ليست حديثة العهد، لكن إعلانها بكل تلك الوقاحة هو الحديث، وهذا التطبيع المشين ما هو إلا كمولود غير شرعي أنتجته علاقة قذرة علنية بين السعودية وأمريكا".

واقتصاديًا، فالأمر لا يختلف كثيرًا عن الجانب السياسي، إذ أبدت الشركات الإسرائيلية رغبتها في الوجود ضمن مشروع "نيوم" السعودي الذي أعلنه مطلع الشهر الحاليّ، حيث قالت صحيفة "جيروسالم بوست" العبرية، إنها علمت من شركات عاملة في السوق المحلي (الإسرائيلي) بمحادثات بينها وبين صندوق الاستثمارات العامة السعودية للدخول في المشروع.

وهو الأمر نفسه عسكريًا، خاصة بعد الأنباء التي تداولتها بعض وسائل الإعلام بشأن تشكيل ناتو إسلامي، بقيادة أمريكا و"إسرائيل" يضم دولاً عربية من بينها السعودية يهدف وفق ما أعلنه محاربة الإرهاب في المنطقة والتصدي لنفوذ إيران والمد الشيعي، وهو ما قوبل بارتياح داخل الأوساط السعودية.

ومؤخرًا فقد عزفت بعض الأصوات الإعلامية داخل المملكة على أوتار التطبيع الرياضي، وهو ما جسدته التصريحات التي أدلى بها الإعلامي السعودي الرياضي وليد الفراج، مقدم برنامج "أكشن يادوري" المذاع على "إم بي سي" التي أكد خلالها أن على السعودية الانفتاح واستضافة الجميع في البطولات الرياضية قائلاً: "لازم تشيل من رأسك منع أحد، وحاول تتكيف مع المرحلة القادمة واستقبال الجميع ونرحب بكل الناس، ولما تحدث كوارث ما نتشمت الناس لأنهم من دولة أو دين ثانٍ".

جاءت تصريحات الفراج بعد ساعات قليلة من تغريدة المحلل السياسي ومراسل راديو "إسرائيل" شمعون أران التي نقل فيها عن نائب رئيس اتحاد الشطرنج الصهيوني "اسرائيل" غيلفار، قوله "إننا على اتصال مع السلطات السعودية لتلقي تاشيرات الدخول الـVisa للمشاركة في مسابقة الشطرنج السريع للأفراد 26-30/12 في الرياض، زهاء 10 لاعبين من "إسرائيل" ينوون المشاركة، منح الـvisa سيشكل دليلاً إيجابيًا آخر للتقارب بين البلدين".

إيران.. كلمة السر

رغم العداء الأيديولوجي بين السعودية و"إسرائيل" فكريا ودينيًا في آن واحد، فإن بروز إيران كقوة إقليمية تهدد العاصمتين، الرياض وتل أبيب، كان كفيلا بطي مرحلة العداء وتدشين صفحة جديدة من التفاهمات والعلاقات المشتركة التي تقوم على مبدأ "عدو عدوي صديقي".

جوناثان ماركوس محرر الدفاع والشؤون الدبلوماسية بشبكة "بي بي سي" أشار في تقرير له أن نتائج الصراع الإقليمي الدائر في الشرق الأوسط خلال الخمس سنوات الأخيرة تظهر أن إيران وحلفاءها ووكلاءها السياسيين والعسكريين كحزب الله في لبنان وقوات الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن هم الأكثر انتصارًا حتى الآن، ومن ثم فإن تعزيز العلاقة بين "إسرائيل" والسعودية أمر منطقي لكل منهما.

فكلاهما (تل أبيب والرياض) يؤكدان عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي، ويشعر كل منهما بالقلق من بعض جوانب الاتفاق الدولي الذي يحد من أنشطة إيران النووية، كما يرين أن حزب الله مصدر لعدم الاستقرار في المنطقة، ومن ثم كان التكاتف والتفاهم من أجل التصدي لها.

 

ماذا عن تأثير ترامب؟

التقرير تطرق إلى الدور المحوري الذي يؤديه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تسريع خطى التقارب السعودي "الإسرائيلي" وهو ما تم ترجمته بصورة واضحة خلال زيارته للرياض مايو الماضي التي توجه بعدها عبر رحلة جوية مباشرة من الرياض إلى تل أبيب، وما تبعها من تداعيات على المستويات كافة، غير أنه لا يمكن الاعتماد عليه بصورة كاملة في التصدي للتمدد الإيراني.

عزا ماركوس هذا إلى إدراك كل من حكومتي الدولتين إلى أن السياسة الأمريكية في المنطقة ليس لها هدف واضح على ما يبدو، فقد تفوقت روسيا في سوريا على الولايات المتحدة وحلفائها من الناحية العسكرية، وأدت موسكو دورًا أكثر تأثيرًا في الصراع السوري، هذا بخلاف أن واشنطن لم تطرح سياسة ذات مصداقية لاحتواء النفوذ الإيراني.

التغير الواضح في خريطة القوى الإقليمية في الشرق الأوسط دفع كل من السعودية ودولة الاحتلال إلى إسراع الخطى نحو تفعيل عملية التطبيع بينهما، مما يعني الانتقال من مرحلة السر إلى العلن، وهي المرحلة التي بدأت إرهاصاتها منذ أول زيارة قام بها عشقي لتل أبيب في 2015، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فهناك شروط يجب أن تتحقق قبل إعلان هذه الخطوة رسميًا بحسب محرر الدفاع بـ"بي بي سي".

القضية الفلسطينية

الشبكة البريطانية في تقريرها رهنت خطوة الإعلان عما يدور تحت السطح على مستوى العلاقة بين البلدين، بالإجابة عن عدة أسئلة على رأسها مدى قدرة كليهما على دفع عملية السلام في الشرق الأوسط للأمام، في مقابل نجاح محمد بن سلمان في انتزاع المزيد من النفوذ الإقليمي.

وتوصل التقرير في نهايته إلى أنه إذا ما قُدر للعلاقة بين السعودية و"إسرائيل" أن تظهر للعلن فلا بد من حدوث تقدم على الجبهة الفلسطينية، وأكد السعوديون منذ فترة طويلة أن ذلك يجب أن يستبق أي اعتراف علني من جانب "إسرائيل"، ودون تجديد عملية سلام حقيقية تُبشر بالفعل بقيام دولة فلسطينية، فإن "التحالف" السعودي "الإسرائيلي" يجب أن يظل في الخفاء.

حديث ماركوس في "بي بي سي" يتناغم بشكل كبير مع التصريحات التي أدلى بها أنور عشقي، خلال لقائه مع "دويتشه فيله" يونيو الماضي، والتي ربط فيها بين الاعتراف الرسمي بالكيان الصهيوني وتفعيل خطوات التطبيع والموافقة على المبادرة العربية (التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز بين "إسرائيل" والفلسطينيين القاضية بإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967 وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع "إسرائيل"، وطرحت عام 2002).

عشقي في تصريحاته كشف أنه بعد تسلم السعودية جزيرتي تيران وصنافير عقب إقرار البرلمان المصري لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية، باتت طرفًا في اتفاقية كامب ديفيد التي لم تعد اتفاقية مصرية - "إسرائيلية" فحسب، وتابع: "إذا طبعت المملكة مع "إسرائيل" سوف تطبع الدول الإسلامية كلها مع معها وستكون قد كسرت العزلة بين "إسرائيل" ودول المنطقة، لكن إن أبدت "إسرائيل" في هذه المبادرة التي طرحتها نوعًا من المرونة في إعطاء الفلسطينيين حقوقهم".

رهن جوناثان ماركوس انتقال العلاقات السعودية "الإسرائيلية" من الخفاء إلى العلن بإحداث تقدم ملموس على مسار القضية الفلسطينية ومن قبله أنور عشقي، يقود إلى تساؤل آخر سألته صحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية في مارس 2017، حين قالت: لماذا لا تسارع المملكة العربية السعودية، لإعلان التطبيع الرسمي مع تل أبيب رغم تجاوز ما يدار تحت السطح من تنسيق وتفاهم سري؟ غير أن الصحيفة في إجابتها أشارت إلى أن "السلام مع "إسرائيل" لن يقدّم شيئًا للسعوديين وكذلك لا يثير اهتمام أشقائهم في الإمارات، إذ إنهم يشعرون بالقلق حيال التهديد الإيراني والتنظيمات المتطرفة، وفي حال أي سلام مع دولة الاحتلال لا يترتب عليه تسوية للقضية الفلسطينية فإن هذا سيكون بمثابة قوة دافعة لكل من هذين العدوين للقتال ضد السعودية وهو ما تخشاه الأخيرة بصورة كبيرة خاصة بعد الخسائر الفادحة التي تتكبدها في اليمن وسوريا فضلاً عن صراع النفوذ الداخلي وتأثير ذلك كله على تماسك المملكة وقدرتها على فتح جبهات جديدة للقتال.

وعزت الصحيفة سببًا آخر لعزوف السعوديين عن إبرام اتفاقية سلام علنية مع تل أبيب إلى أنهم وجيرانهم في دول الخليج يحصلون على كل ما يحتاجونه من دولة الكيان الصهيوني دون الاضطرار لدفع ثمن إقامة علاقات رسمية معها، وهذا في نظر الصحيفة كافٍ على الأقل في الوقت الراهن، وحتى إشعار آخر.