سنغنّي "عنِّكِ" ومعكِ يا ريم!

بالعربي_كتبت:مي مرعي

لم يكن غريباً أبداً أن تُدمنَ ألبوماً غنائياً كاملاً في التسعينات. لفضلِ انتشار "الشريط"أو "الكاسيت" ولظهور شركات الإنتاج والتوزيع الفنّي المحلية، كليزر كاسيت، وسوبر ساوند وغيرها. إضافة لمحال بيع الكاسيتات، كاستوديو طارق في جنين، أو a.r.t في نابلس على سبيل المثال، التي كانت من ضمن الوجهات الدائمة لطلبة المدارس الثانوية فور انتهاءِ الدوام في نهاية الأسبوع، بعد "تحويشة" الخمسة شواكل بهدف شراء كاسيت جديد، خاصة ما إن تصادف ذلك مع نزول ألبوم عمرو دياب الجديد، او كاظم الساهر، أو نوال الزغبي. لتدمنَ بعد هذا الألبوم لمدة شهر أو اكثر، فيأتي دور آخر. ولإخلاصك الزائد، تحتفظ به بعد مرور شهرِ الإدمان في درجِ الكومودينة الخاص بالكاسيتات، أو في علبة أحذية في قعر خزانة الملابس، ولعلك في أكثر المرّات تحاول مواراتها عن والديك، لتجنّب نفسك توبيخاً مطولاً حول ضياع مصروفك على هذا الكمّ الهائل من الأشرطة القديمة والجديدة.

كان انتشارُ الأغاني الفلسطينيّة وسط الألبومات التجارية محدوداً جدا، ولعلها اقتصرت على بعض الكاسيتات النادرة لفرقة العاشقين، والأغاني الوطنية المحلية والدبكة الشعبية. لم يكن ترفُ اليوتيوب، والساوند كلاوند والكليكات الثلاثة المعدودة والموضوعة من قبل خبراء تكنولوجيا محرّكاتِ البحث لتوصِلك بأكثر الأغاني الفلسطينية ندرةً وقدماً، معروفاً بعد. ولربما كان وقتها الاستماعُ لريم بنّا وكاميليا جبران مثلاً حظّاً جميلاً وصعباً!

احتفظت بنات خالي أسامة الثلاث في بيتهنّ القديم والكبيرِ جداً، واللواتي كنّ يرتدن المدرسة الثانوية في حينها، باختلاف مراحلها الثلاث، بستّة علبٍ للكاسيتات، وقد صنّفنها ضمن عدة مجموعات. مجموعة الرقص، تختلف من أنوشكا، لحميد الشاعري ومصطفى قمر والتي غالبا ما تستخدم في حفلاتِ نهاية العامِ الدراسي التي تُعقد في غرفة النومِ على فراش الأسرّة، باستضافة بنات خالتي ليلى المتقاربات في العمر أيضاً. ومجموعة "رَواق" التي تحوي فيروز وماجدة الرومي وعبد الحليم وغيرهم. ومجموعة "خاصة" تضمّ المطربين الأثقل من حيث الطرب، كأم كلثوم، وفريد الأطرش، وعبد الوهاب، والتي غالباً ما كانت محرّمة نظراً لملكيتها التي تعود لزوجة خالي السوريّة. ومجموعات أخرى لا أذكرها. وكانت هذه العلب الست محرّمة تحريماً دائماً على أطفالِ العائلة، ومنهم أنا، لحساسية "شَبرِ" الكاسيت البنّي وقابليته السريعة للخروج من الكاسيت وبالتالي تلف ما قد يكون غالباً النسخة الوحيدة من الأغنية المرجوّة.

وسط كل "عجقة" الكاسيتات هذه، كان لنا كاسيت خاص بنا، أنا وسلمى وزياد، أولاد خالي الصغار، أشبهُ بثروةِ عظيمة وسطَ شُحِّ الأغاني الملائمة لذوقنا. كان عنوانه مطبوعًا بخط النّسخ، "قمر أبو ليلة" لريم بنّا الذي صدر عام 1995. لم أكُن أعرف المغنية حينها، وظلّت الجندية المجهولة للكاسيت بلهجتها الفلسطينية "الكحّ" والقاف الصريحةِ بلفظها هوساً يطاردني. حفظتُ أغاني الكاسيت الإحدى عشر كاملة ولعلّ الذاكرة الغضّة ارتأت أن تنسجَ معظم الكلمات من تلقاء نفسها، فتكتفي بكلمات على الوزن او القافية لأوهمَ نفسي عظمة الإنجاز بحفظها غيباً. فأمرّن ذلك في كل زيارة لبيت خالي، أستمعُ للكاسيت عدّة مرات متتالية، وأحتفظ بمخزوني الموسيقي منه ما يكفي لبقية الأسبوع.

كان استثنائياً جداً اكتشافي تكنولوجيا نسخ الكاسيت لكاسيت آخر نشتريه فارغاً من المحل ذاته بثلاثة شواكل. لأحظى بذلك بنسختي الأولى من كاسيت ريم بنا، لأستمع لها ليل نهار متى أريد وكيفما أشاء!

توقعتُ أن تكون ريم، فلسطينية في لبنان أو لربما في سوريّا، وأوهمتُ نفسي استحالةَ قربِها، حتى قرابةَ الصف السادس، حين أخبرتني بعض صديقاتٍ لي لحظة سماعي أردد "هون بركة الفضة،، اجا العصفور يتوضى"، أنهن التقين المغنية في حفلٍ ما في الناصرة وسمعن الأغنية ذاتها،  لينلنَ بذلك من الغيرةِ والغيظ منّي ما أشبعهنّ لنهاية حياتهن.

لصقت بي هذه الأغاني لعمرِ العشرين، حتى وجدتُ نسخ معظمها على اختراعِ "اليوتيوب" بتوزيعها الجديد، وإلى أن التقيت بريم بنّا في حفل لها في جامعتي في جنين عام 2009. حرصتُ قبله على الحصول على تذاكر لصديقاتي الأربعة، فأضمن وجودي بالصف الأول برفقتهنّ، وأشق طريقي بعد انتهاء الحفل، بدقّات قلبٍ متسارعة وسعيدة جداً انتشت باختتام الحفلة بصورة خالدةٍ معها بكوفيتها الحمراء!

أتممتُ بعدها إدمانَ أغانيها الأخرى، لتتصدر دائماً قوائم "المفضلة" لديّ بـ "المغني" فتكون ملجأ زرقةَ حزني الدائم، وأغنية "لاطلع ع راس الجبل، واخد معي مفتاح، وافتح جنينة أبي واقعد فيها وارتاح" نشوةَ فرحي، و "هلالليا"  و"الغائب" فأحفظها جميعاً كحفظي لـ" بركةِ الفضّة" بكلماتها ونوتاتها وقافيتها ومقامها وعرَبها وطبقاتها!

ريم بنّا، كنتِ ولا زلتِ إدماناً فلسطينيّاً جميلاً.

سنغنّي اليومَ "عَنِّك وإلك ومعك" يا ريم!
فأنا، وغيري كُثر، نحفظ أغانيكِ بتفاصيلها كي نغنيها معاً، بوترك الصوتيّ الواحد الذي تعدّى الفيزيائيات، ليبقى رنيناً حميماً في ذكرياتنا، حاضراً في يومنا، فارضاً وقع جمالِه على غدِنا.

إن كنّا سنسمعكِ، نقرأكِ، نشاهدكِ أو نتابعكِ، سنظلّ نحبُّك. فلم يكن صوتاً فقط ما أحببنا، إنما فكراً وحسّاً وروحاً وشجاعةً، وفوق كل ذلك، ابتسامةً فلسطينيةً خالصة.

فكثيرات هنّ من يخترن الانحناء يا ريم. الانحناء للعدوّ بأشكاله المختلفة، إن كان رجلاً قد نسيَ ومضى.
أو احتلالاً أدمى وأثقل الظهر.
أو مرضاً تعرّش محاولاً الفتكَ بالروح.

وقليلاتٌ جداً من يخترنَ الوقوف، كوقوفك الصّافعِ بوجه كل ألمٍ يا ريم.
ونحن نختار الوقوف معكِ، فلا قدرة لداءٍ على الفتكِ بأرواحٍ إن اجتمعت تطيرُ حرّةً بفضاء السماء.