لست متزوجة يا محمد

بالعربي- كتبت عبير كالوتي :

أتعرف يا محمد لمّا سألتني، لم تكن الأول، لكنّ جوابك كان الأول الذي حفّز في نفسي كلَّ التساؤلات التي كنت أتلقاها من نفسي في كل مرة أتلقى السؤال ذاته من "ذكر".

سألتني وأنت الذي تصغرني بأحد عشر عاماً، وأكبرك بمثلها تماماً، سألتني وقد كان حديثنا حواراً عاماً دون أي إضاءات حمراء خافتة وموسيقى "مونامور" هادئة، سؤالاً كالفاصل الإعلاني الذي تضعه القناة التلفزيونية وسط فيلم لا يشبهه في شيء، سألتني بعفوية أعلمها: متزوجة؟ بعد أن جزمت قاطعاً - وقبل أن أجيبك - بأني متزوجة بحكم عمري.

لكني تعمّدت أن أجيبك بفضولي أيضاً وطبيعتي التي ما فتئت تلازمني مذ سنوات عملي الإذاعي في برامج المرأة، فرددتُ السؤالَ بسؤال: "إنو شو بهمك؟"، فأجبتني: "عشان إذا إنك متزوجة عيب أحكي معك".

هنا بدا لي حوارنا كفيلم الأكشن، فرفعتُ وتيرة المشهد وسألت: "بالله؟ ليه؟"، فأجبتَ وأنا أسمع صوتاً في داخلك يحدّث نفسه "ألا ليتني ما سألت": "أبصر هيك عنا عادات"، واعتذرتَ بشدة وأدب فيما إذا كنت قد ضايقتني.

فقلتُ تحرشاً بإجابةٍ توصلني: "صحيح بس إنو مش عم نتغزل ببعض ولا ضاربينها صداقة؟!"، فنفضتَ عن نفسك: "أوك أنداري هيك علمونا.. ما علينا"، وأدرتَ عجلة الحديث إلى مسربٍ آخر.
واصطف عقلي عند جوابك هذا يا محمد.. نعم هم "هيك علمونا"!
ما كنت سأسألك من هم؟ الأم؟ الأب؟ أم الإخوة؟ أم الأخوات؟ أم الأقارب؟
بائع الدكان؟ أم خطيب الجمعة؟
أستاذ المدرسة؟ أم الجامعة؟ أم رفيقك؟
الدروس الدينية المسجلة ومواعظ الدعاة القدماء منهم والجدد؟ السلفيون منهم أم الإخوان أم الصوفيون أم...
الأفلام المصرية أم السورية أم التركية أم الهندية أم الأمريكية؟
منشورات الفيسبوك أم تويتر أم الإعلانات التي تصطف ممشوقة كعارضات الأزياء على مصاطب شوارعنا؟

ومن أين أصل هذا التصنيف في الخطاب؟ ولماذا؟ هب أني أجبت بالنفي.. فسؤالي: ماذا بعد؟ عدا عن أنه ما هو التصور الذي انطلق منه هذا السؤال للمرأة غير المتزوجة؟
قد تقول لي لا تحمّلين الأمور فوق ما تحتمل وخذي الكلام على ظاهره.

وبعيداً عن عفويتك يا محمد دعني أقول لك وأنا أخاطب فيك الرجل، إن هذه الأشياء التي تصبح بدهية وعادية وعلينا ألا نقف على تفاصيلها كما يقول البعض، هي ذاك السوس الذي لا يزال يحفر في ذهنية الإنسان حتى ينهشه ويرديه، لا يحس ولا يعرى.

وهو الشيء الذي أنسبه إلى ذهنية الرجل عامة ولا أخصّه بمجتمعنا العربي أو الإسلامي حتى، فسؤالك ذاته يا محمد كنتُ قد تلقيته في بلدي، كما تلقيته من سائق تاكسي بنغلادشي في قطر، ومن سائحٍ ألماني في أميركا، ومن تركي وآخر من أصل كردي في تركيا، أي أن سؤالك هذا لا ملة له ولا دين، بل إنه سؤال ذهني تصوري لما يحمله الرجل في مخزونه الفكري عن المرأة.

قلت لي أنت يا محمد عن علّة سؤالك بأنه كي لا تحدثني فيما إذا كنت متزوجة، وهذه العلة إن أردتُ أخذها عن حسن نية ـ كما أخذتُها حقاًـ فإنها أيضاً تدلل على شيء تأصل في ذاكرتنا الذهنية عن المرأة بعدما أصبح يُتعامل معها على أساس التصنيف هذا (متزوجة وغير متزوجة).

حتى في سياقات التوظيف والتعليم والفرص المتصلة فتهمّش المرأة المتزوجة لاعتبارات عدة وأهمها بداعي عدم التفرغ، الأمر الذي يفرض تصوراً مسبقاً متخذاً عنها دون إرادتها وإنما بحكم الصورة الذهنية المتوارثة عنها عن الـ"هم" الذين قلت عنهم يا محمد.

وتُعطى المرأة غير المتزوجة أيضاً بحكم ذلك صورة بأنها في المصطلح الدارج "خفيفة وسهلة" ولديها متسع من الوقت ليملأه الرجل بقصصه البطولية، والذي يلحقه السيناريو المترتب على السؤال والمتفاوت في صورة ترجمته بحسب البيئة والمجتمع فحيناً يكون دعوة صريحة مباشرة، أو استدراجية تبدأ بكوب شاي.

أوعلاقة زمالة أو صداقة عادية - كما يوصّفها - يغطي بها إرادته المباشرة بزواج سري أو ثانٍ، محترزاً بكلمات من مثل "أختي" و"سيدتي" التي يكررها أكثر من ثلاث مرات في جملة مكونة من خمس كلمات وعليه قس..

الأمر ليس بهذه الصورة الآلية المجردة التي قد تبدو عليه، إلا أن المرأة تستطيع قراءتها في سياقها المتصل بها واقعاً، لتميز فعلاً بين هذا وذاك، نعم إنه ليس وصفاً متصلاً لكل الرجال كما النساء، لكنه دعوة للتعامل دون تصنيفات وتوقعات ظنية ومآرب شخصية حتى.

العلاقة بين الرجل والمرأة ستبقى - باختلاف المرجعيات - علاقة جدلية بحكم اختلافهما ولا ترتمي لصورة واحدة، لكننا يمكننا تحقيق التكامل فيها بوأد الكثير من الغثاء الذي توارثناه وبُنيت عليه تصوراتنا، لندرك أنهما ليسا في حلبة صراع فإما خاسر ومنتصر، أو فاعل ومفعول به، بل كليهما الفاعل والمفعول به ومعه.

وعليه سيكون حينها من السهل جداً عليك أن تدرك تلك المرأة: الأم والأخت والزميلة والصديقة والزوجة، كلاهما عناصر فاعلة في حياتك وبمساحات قد تتقاطع وقد لا تتقاطع.
وأن المرأة صورتها أكبر من مجرد مكب لرغبة طارئة.
وأن المرأة إن حدثتك من على مدارج الدراسة أو العمل وفي شوارع الفيسبوك وأخواته لا يعني أنك ملكتها بيمينك.

وأما إن كان حباً قد وقع، فاعلم أن الحب هو الذي يحفظ كرامتنا بكرامة الآخر، وليس من الحب ما يحفظ كرامتنا بإهانة الآخر من حيث علمنا أو لم نعلم.

وإلا فلا تعلق قلبا لا تريده بصدق، وكأن جلجامش يسمع خطابنا هنا ليقطع عني ويقول لك: "إذا كان المستحيل يجب ألا يرتاد فلماذا أيقظت في قلبي الرغبة التواقة إليه".

لأن لسان حال المرأة حينها سيقول لك: عزيزي الرجل.. لم أخلق لأكون ريشة في هواك، تتقاذفها أنى شئت ومتى شئت، لم ولن أكن يوماً ريشة، أُدفن في ثرى الكبرياء ولا أرتع في قصور الأهواء.

فالمرأة أذكى من أن تكون كشك استراحة لعابر سبيل..
سفر الحياة طويلٌ صعب، نعم.. لكن ليس كل الماء صالحاً للشرب..
فهلا أدركت يا محمد؟

(هافينغتون بوست عربي)