الأيّام الأربعون حتى الرابع والأربعون بعد المائتين لحرب الإبادة على غزّة، 2-6 يونيو 2024
وقائع هذه الأيام ليس من السهل نسيانها، بدايةً بذكرى شخصيّة حديثة نسبيًا حيث تمكنّت في العام الماضي وفي بداية شهر حزيران من السفر لأوّل إلى أمريكا التي لم أكن أتوقّع مُطلقًا أن أزورها في حياتي كُلّها، خصوصًا وأنّني حاولت عدّة مراتٍ الحصول على تأشيرة الدخول لها وفي كُلّ مرة كانت تحدث عقبات خارجة عن المألوف فتُفسد الخطة ولا أحصل على الفيزا، حتى أنني في العام الماضي عندما تقدمت بطلب الفيزا كانت الحالة الأمنية في القدس متوترة ولم أصدق أن وصلني جواز السفر وعليه ختم الفيزا، وبعد ذلك بيومٍ فقط أُغلقت المعابر لما يزيد عن شهر وتوتّر الوضع الأمني للأسف كعادته بين فترة وأخرى. لكن فور أن أُعيد فتح معبر رفح، قلت لابنتي "أخيرًا سنكون سويًا في نفس المكان"، والحقيقة أنّ هذا كان هدفي من السفر، غير أنني اكتشفت الكثير أثناء زيارتي عن ذاك البلد- ولكن ليس هنا مجال الحديث الطويل عن ذلك.
ثمّ يأتي الرابع من حزيران الذي يُمثّل ذكرى حزينة لكلّ الشعب الفلسطيني وأيضًا الشعب اللبناني، فهو اليوم الذي اجتاح فيه الجيش الصهيوني لبنان سنة 1982 في محاولة لتدمير الثورة الفلسطينية ومُقدّراتها العسكرية، وقد كانت أول أطول حربٍ خاضها الكيان الصهيوني في محيطه العربي، حيث استمرت ثمانين يومًا اشتبك فيها مُقاتلو فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ببسالةٍ مع الجيش الصهيوني، ولم يُساند شعبنا الفلسطيني في تلك الحرب أيٌّ من الدول العربية، وكما هو الحال الآن كانت بعض الدول تلعب دور الوساطة فقط من أجل إخراج الثورة الفلسطينية من بيروت. وقد انتهت تلك الحرب بالفعل بخروج منظمة التحرير من لبنان على عدة أيام عبر السفن في البحر، وتفريق القوات العسكرية على عدّة دول عربية، فسجّل ذلك العام أوّل هزيمةٍ للثورة الفلسطينية، وقد كنت شاهدة عيانٍ على تلك الحرب حيث كنت مقيمةً في بيروت آنذاك، وخرجت مع من أُخرجوا منها.
ليس هذا ما حدث فقط، ففي اليوم الأخير ومع مغادرة آخر مجموعةٍ من الثورة من بيروت بحرًا، دخلت العصاباتُ المعادية تحت حماية الجيش الصهيوني لتُنفّذ المجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في نهاية سبتمبر. وما أشبه اليوم بالأمس حيث تلعب دُول الوساطة العربية دورًا ضاغطًا على الجانب الفلسطيني لإجبار المقاومة على الاستسلام وكسر صمود الشعب بعد كلّ جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الجيش الصهيوني النازي بحقّ شعبنا دون أن يرفّ لهم جفن.
أمّا الخامس من حزيران فهو ذكرى ما وقع في نفس اليوم سنة 1967 ونُسمّيه النّكسة،عطفًا على اصطلاح النكبة سنة 1948. في هذا اليوم من سنة 1967 احتل الكيان الإسرائيلي باقي الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبحت أرض فلسطين كُلّها تحت الاحتلال الصهيوني، وأيضًا سقطت الجولان السورية وسيناء المصرية وكانت حربًا سريعةً انهزمت فيها الجيوش العربية خلال ستّة أيامً فقط.
وهذا كفيلٌ بأن يُفسّر لنا حجم الصدمة التي تلقّاها الكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر في السنة المنصرمة، وحجم الغضب والإحساس بالهزيمة الذي ولّدا لديه الرغبة في الانتقام بهذه الوحشية وكشفا عن الوجه القبيح لقادة هذا الكيان ومدى فاشيّتهم وهمجيّتهم وهم يوجّهون قذائفهم نحو الشعب الأعزل، ويقتلون عشرات الألوف من المواطنات والمواطنين. وكلّما طال الوقت يزدادون عنجهيةً وغضبًا، وكلّما حظوا بالفشل يحاولون تحقيق أيّ مكسبٍ ولو كان ضئيلًا، وحتى بعد مرور ثمانية شهورٍ على هذا العدوان والتي تُعدّ الحرب الأطول في تاريخ الصهاينة، مايزال الفشل مُصاحبًا لكافّة خططهم ومحاولاتهم القضاء على شعبنا الصابر والصامد.
نعم، يبدو أن هذا الحزيران سيحمل لنا مفاجئاتٍ غير محسوبة، وذلك في ظلّ المحاولات المُعلن عنها من قبل إدارة بايدن عن احتمال الوصول لاتفاقٍ لوقف هذا العدوان، في حين يتمسّك قادة حكومة الحرب برفض المقترحات بهذا الخصوص، وفي نفس الوقت يدّعون أنّهم قد قدموا ورقة تُشير لموافقتهم على المقترح الأمريكي، ومازال الجيش يُصعّد عدوانه على رفح وعلى المخيّمات في المحافظة الوسطى وعلى المناطق الشرقية في كافّة المحافظات.
ونحن بانتظار أيّ تقدّمٍ في المفاوضات وأيّ مفاجأةً سارّة لتُنهي هذا العدوان البغيض وتتغيّر الذكرى الحزينة لهذه الأيام من حزيران بأخرى تُعيد حياتنا لنا.
زينب الغنيمي، من مدينة غزة تحت القصف والحصار