"نبوءات" بن غوريون.. تأسيس "إسرائيل" مرتبط بكارثة تحلّ على العرب والسلام معهم مستحيل

بالعربي: كشف كتاب جديد عن رئيس وزراء الاحتلال الأسبق ديفيد بن غوريون مواقفه حيال قضايا عربية كثيرة، إذ كان يعتقد باستحالة إرساء السلام بين العرب و"إسرائيل"، ويؤمن بضرورة اقتصار التعاطي مع ملف السلام على إدارته فقط دون انتظار نتائج كبيرة.

وأظهر الكتاب تغيّرات كبيرة في موقف بن غوريون من يهود الدول العربية. ففي حين عبّر بدايةً عن نظرة عنصرية تجاههم، عاد لاحقاً واعتبرهم نواة إبداعية يمكن الاستفادة منها في بناء "إسرائيل".

الكتاب الجديد عن "الرجل العجوز" أعدّه الصحافي "الإسرائيلي" توم ساغيف، ونشره بعنوان "دولة بأي ثمن: قصة حياة ديفيد بن غوريون". وعلى خلفية صدور الكتاب، نشرت صحيفة هآرتس العبرية حواراً مطولاً مع الكاتب.

صعوبة العلاقة بين اليهود والعرب

احتلت علاقة اليهود بالعرب مساحة واسعة من اهتمامات بن غوريون، فإذا كان السلام محوراً مهماً، شغل ولا يزال يشغل الجانبين، فإن "الرجل العجوز" اعتبر، قبل وقت طويل، أن الجميع يدرك صعوبة هذه العلاقة، ولكن الجميع يغض الطرف عن استحالة إيجاد حلول.

وقال بن غوريون: "لا يوجد حل. هناك هوَّة في العلاقة بين الطرفين، لا يمكن تفاديها". وقبل 30 عاماً من إعلان قيام "إسرائيل"، قال: "نحن نريد أن تصبح تلك الأرض وطناً للأمة. ويريد العرب أيضاً الأرض ذاتها وطناً لهم. ولا أعرف عربياً واحداً يمكنه التنازل عن موقفه، والموافقة على تحويل الأرض إلى وطن لليهود".

يعرب صاحب كتاب "دولة بأي ثمن" عن دهشته من العبارات التي أطلقها "الرجل العجوز" قبل عقود من تأسيس "إسرائيل"، فقد تنبأ بأن الدولة العبرية ستظل عُرضة للتهديد بالإبادة طيلة وجودها في المنطقة، وبأن العرب لن يقبلوا بوجودها، حتى إذ وصلوا إلى قناعة باستحالة تدميرها.

وجزم بن غوريون دائماً بأنه لم يعرف أحداً يمكنه التنازل عن أرضه طواعية، لذا أوصى بإدارة النزاع مع العرب على الأكثر، والتخلي عن آمال الوصول إلى حل شامل.

استبدال العمالة العربية بعمالة يهودية

ربما كانت استراتيجية استبدال العمالة العربية بعمالة يهودية نتيجةً لإيمان بن غوريون منذ بداية الطريق بالفكرة التي لم يعلنها إلا لاحقاً، وهي فكرة الترانسفير (التهجير)، بحسب ساغيف.

في البداية لم يعلن عن المصطلح بمعناه المعروف، وإنما عرض الفكرة في إطار الحديث عن الصراع على قضية "العمل العبري"، أو ما يعني استبدال العمالة العربية بعمالة يهودية في المستوطنات التي أُنشئت قبل إعلان "إسرائيل". وأعلن ذلك صراحة في مرحلة لاحقة نهاية ثلاثينيات القرن الماضي بقوله: "إنني ملزم بفرض عملية التحوُّل، ولا أعتبر ذلك أمراً منافياً للأخلاق".

وربط مؤلف الكتاب بين الصراع وبين قضية العمل العبري وبين تأييد فكرة الترانسفير، والنكبة عام 1948، مشيراً إلى أن فكرة الترانسفير رافقت الأيديولوجية الصهيونية منذ بدايتها، وعلى الرغم من أن معظم قادة الحركة لم يؤيدوا الفكرة، لكن بن غوريون كان متمسكاً بها إلى أقصى درجة، فأصبح تأسيس الدولة العبرية، كما تنبأ "الرجل العجوز" في الماضي، مرتبطاً بكارثة تحلّ على شعب آخر يهرب مئات الآلاف من أبنائه، أو يُجبَرون على الهرب.

وعلى سبيل المثال، يصف ساغيف كيف أن بن غوريون الذي كانت إقامة الدولة العبرية حلم حياته، طالب البريطانيين عشية إعلانها بتمديد الانتداب البريطاني على أرض فلسطين، ووافق على إرجاء خروج حلمه إلى النور لعدة سنوات.

ففي عام 1947، وقبل أشهُر من قرار الأمم المتحدة القاضي بإلغاء الانتداب البريطاني، وتقسيم الأرض بين دولتين إحداهما فلسطينية والأخرى "إسرائيلية"، وهو القرار الذي مهَّد الطريق أمام إعلان قيام "إسرائيل"، التقى بن غوريون ليلاً بوليام جويت، "السيد المستشار" البريطاني، وهو ثاني مناصب الحكومة أهمية بعد رئاستها، ودوره ضمان عدالة القضاء البريطاني واستقلاليته.

وفي منتصف الليل أنهى الطرفان صياغة وثيقة مصيرية، نص السطر الأخير فيها على استمرار الانتداب لمدة خمسة أو عشرة أعوام. وعن ذلك يقول ساغيف: "كان أمراً مدهشاً وغريباً، ففي الوقت الذي يحارب فيه المشروع الاستيطاني الإنكليزي، سافر بين غوريون إلى لندن وتوسل أمامهم ليظلوا في الأرض".

ووفقاً للوثيقة التي بلورها بن غوريون وجويت، يسمح لمئة ألف يهودي تقريباً بدخول الأراضي الواقعة تحت الانتداب البريطاني خلال العام أو العامين القادمين، وبعد ذلك تُستأنف موجات الهجرة، وفقاً لقدرة الاستيعاب الاستيطانية، وتلغى القيود التي يفرضها الكتاب الأبيض الثالث (صدر عام 1939، ووصفه بن غوريون بـ"كتاب التعالي البريطاني"، نظراً لما ينطوي عليه من تعارض مع وعد بلفور الصادر عام 1917).

في المقابل، التزم بن غوريون بتجميد إعلان قيام "إسرائيل" عدة سنوات. لكن تلك الخطة لم تخرج إلى حيّز التنفيذ، ووجدت طريقها إلى أرفف الأرشيف البريطاني.

وفي تعليقه على الأمر، رأى ساغيف أن بن غوريون أعرب بهذا الموقف عن خوفه من عدم استعداد دفاع المستوطنات لخوض حرب، فكان حريصاً على الاستفادة من عنصر تمديد الوقت.

خارطة بن غوريون

وخصص صاحب الكتاب جهداً مضنياً للعثور على مادة أرشيفية اعتبرها جزءاً من وقائع تجاهلتها عملية التأريخ لحياة بن غوريون. وكشف أنه في عام 1947، وقبل أشهر من المصادقة على قرار التقسيم الأممي، اقترح بن غوريون خارطة تقسيم موازية، وعرضها على مجلس وزراء بريطانيا.

في البداية، عثر ساغيف على أدلة مكتوبة تؤكد وجود الخارطة، ولكنه لم يعثر على الخارطة نفسها. ويقول: "بحثت كثيراً فلم أجد الوثيقة. كان ذلك محبطاً للغاية". وقبل تنازله عن إدراج تلك المادة التاريخية في كتابه عن بن غوريون، وجد ضالته في الأرشيف الوطني البريطاني.

سافر ساغيف إلى لندن، ويقول: "في الأرشيف البريطاني علموا أنني المجنون الذي يبحث عن الخارطة. حينما وجدتها، أسرتني سعادة، يستحيل وصفها. استخرجتُ هاتفي الجوَّال لالتقاط صورة خارطة بن غوريون قبل هروبها".

يشي التدقيق في تلك الوثيقة بمعلومات بالغة الأهمية. فقبل قرار التقسيم الأممي، رسم بن غوريون بنفسه خارطة تضاهي حدودها إلى حد كبير حدود الخط الأخضر الذي بات معروفاً بعد إعلان قيام إسرائيل. ويوضح ذلك أن بن غوريون كان يعلم ما ستسفر عنه حرب 1948 قبل اندلاعها.

منابع ثرية في أعماق اليهود العرب
ويتضمّن الكتاب الجديد عن بن غوريون نماذج أخرى تكسر الصورة الأمنية السائدة عن شخصيته، ويتضح ذلك من حدث جرى عام 1929، بالتزامن مع بدء هجوم عربي على الاستيطان اليهودي، إذ فوجئ بن غوريون حينذاك ولم يكن مستعداً للتعامل أمنياً مع الأحداث، على الرغم من أنه كان يتحتم عليه استقاء الدرس من أحداث يافا عام 1921، حينما هاجم العرب الاستيطان اليهودي في المدينة. وتكررت ورطة بن غوريون أمام التمرد العربي الأكبر على الاستيطان عام 1936.

من جهة أخرى، يعدِّل كتاب ساغيف ما أشيع حول عنصرية بن غوريون تجاه اليهود الذين يتحدرون في أصولهم من دول عربية، فيقول: "لم تكن رؤية بن غوريون عنصرية حيال اليهود العرب، لكنه حكم عليهم من منظور ضيّق، انطلاقاً من رغبته في دفع الحركة الصهيونية قدماً. اعتقد أن يهود الدول العربية والإسلامية تربّوا في دول ضعيفة، لذا من الصعب دمجهم في البيئة الإسرائيلية الجديدة وفي الجيش مثل اليهود الأشكناز (اليهود ذوي الأصول الأوروبية)، لا سيما أن بن غوريون كان يحلم بتأسيس دولة على الطراز الأوروبي".

لكن "الرجل العجوز"، بحسب ساغيف، غيّر لاحقاً انطباعاته عن اليهود العرب قليلاً. وعلى سبيل المثال، وخلال لقاء مع دوائر أدبية، تنبأ بأن اليهود العرب الذين وصفهم بالبدائيين، سيخرج من بينهم بيرل كاتسنلسون جديد (أحد أبرز أقطاب حزب العمل الإسرائيلي، ويُعَدّ من بين مفكري الحركة الصهيونية الاشتراكية، كما أنه أحد مؤسسي منظمة العمال "الإسرائيلية "الهستدروت").

وفي مناسبات أخرى، قال بن غوريون: "تكمن في أعماق اليهود العرب منابع ثرية من القدرات الرائدة، بالإضافة إلى منابع من البطولة والإبداع. إذا استثمرنا معهم جهوداً، كالتي بذلناها مع الشباب اليهودي في الدول الأوروبية، فسوف نحصل على نفس النتائج المباركة".

بن غوريون والمحرقة

ويسرد مؤلف الكتاب "الإسرائيلي" ما اعتبره سراً مفاجئاً في حياة بن غوريون بخصوص المحرقة النازية، إذ إن أول رئيس للوزراء في "إسرائيل" لم يكن يعلم شيئاً عن معامل إبادة الألمان ليهود أوروبا إلا في يوليو 1942، حينما استقى معلوماته من عربي مسيحي يقيم في القدس.

ويؤكد ساغيف أن تلك المعلومة جاءت نتاج بحث تاريخي، استغرق وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً. العربي المسيحي يدعى فرانسيس كتاني، تلقى تعليمة في العاصمة اللبنانية بيروت، واكتسب رزقه من العمل في مجالات مختلفة. وفي عام 1942، هاجر إلى الولايات المتحدة، وعمل هناك مديراً لأحد نوادي الروتاري. والتقى كتاني وبن غوريون في نيويورك قبل وقت وجيز من ذيوع السر المذهل في مختلف دول العالم، وقصَّ كتاني عليه محادثاته مع كوادر في الحكومة البولندية التي تعيش في منفاها بلندن.

وعن ذلك يقول بن غوريون: "شعرت بالرعب إزاء ما سمعته أذناي". وخلال حديثه مع إدارة الوكالة اليهودية، أكد أن كتاني كان الشخصية التي عرف منها خطة إبادة يهود بولندا.