"شكرن عمر العبد !"

بالعربي-كتبت- رولا حسنين: 

كان يكفي أن أعود الى عملي متثاقلة بكل ما في جوفي من تناقضات الحياة، ظروف تعصف بالانسان تكشف له زيف الواقع الذي يعيشه، شتات الناس الذي لا ينتهي، ملل الذلّ الروتيني الذي يعيشه الفلسطيني كونه تحت احتلال نهش منه كل شيء، وكونه يعيش يومه لأنه يومه، ولا يسأل كثيراً عن الغد، لأنه لا أمل بوجوده أصلاً، فلا حسابات له ..

تمرّ على اذهاني كلمات "أغنية راب الأعرج" والتي تتحدث عن الشهيد باسل الأعرج، المعروف بلقلب "المثقف المشتبك"، شهيد علّمنا أن الثقافة شيء مهم في قاموس الفلسطيني، وسلاح ناجع يوجع الاحتلال كثيراً، اذا ما استخدمت ضمن مدلولاتها، فاشتبك بثقافته وسلاحه حتى ارتقى شهيداً، فأصبحنا نقدس المثقفين على هذا المنوال، سعياً منّا بالبحث عن ثقافة مقاومة ليست معهودة، لا تشملها الشعارات ولا الخطابات المقيتة، فالمثقف شهيد.

وعند أول تصفح لي لموقع الفيسبوك، فإذا بفيديو من داخل محكام الاحتلال للأسير عمر العبد ابن قرية كوبر في رام الله، منفذ عملية "حلميش" في الواحد والعشرين من تموز المنصرم، رداً على اجراءات الاحتلال ضد الأقصى، عملية ما زالت تربك الاحتلال في كل شيء، تمثلت تعقيداتها في أن المنفذ لم يستشهد رغم اصابته، بل ظلّ أيقونة النضال المختلفة عن أيقونة الأعرج، طلّ علينا عمر العبد من داخل المحكمة بشاكلة لا تشبه كل الصور التي انتشرت له سابقاً وعرفناه بها، نحيل الوجه بادٍ عليه الارهاق والتحقيق،  ولكنه يبتسم بعمق، عيونه وحدها تحوي العمق الذي لا يمكن الاستدلال به الا عمق العبد وحده، عمر الذي نشر وصيته قبل ساعتين من تنفيذ العملية على موقع "فيسبوك"، وصية حوت تعقيدات املاء اللغة كلها، نصب فيها الفاعل ورفع المفعول به وحرّف التنوين، ونوّن الحرف، وطلب الاستقامة في الفعل لا اللغة، نشر الوصية كتحدٍ اضافٍ للاحتلال ومكوناته الاستخباراتية النتنة أمام الحرف اذا قرر أن ينطلق، ثم سار على أقدامه ساعتين حتى وصل البؤرة الاستيطانية اللعينة "حلميش" المقاومة على أراضي الفلسطينيين عنوة كغيرها وتقطع الأوصال الفلسطينية.

عمر الذي ابتسم اليوم داخل المحكمة، كان من المفترض أن يجد أمامه عائلته تحضر محكمته، وينظر اليهم ما بين فخره وألمه وشوقه، ولكنه وقف وحيداً بين الأعداء، شامخاً، فهو يعلم أن والدته ووالده واخوته وعمه أسرى في سجون الاحتلال مثله، لأن الاحتلال قرر الانتقام منه على فعلته حين قتل 3 مستوطنين وأصاب الرابع، عمر يعلم أن منزله أصبح رماداً كعقاب اضافي للعائلة على فعلته، ورغم ذلك ابتسم بعمق، عمر الذي ساوى فينا النظرة ما بين المثقف الذي يجيد الكتابة والمقاومة، والمقاوم الذي لا يجيد الاملاء ولكنه يجيد الفعل بضراوة، فلك أيها العُمر "شكرن بكل املاء اللغة التي أجدتها، فأنا لن أقول بعد اليوم الا كما قلت أنت شكرن".

أكتب دون قافية، ولا خاتمة، أكتب بحجم التناقضات، وأظنني لا أجيد فهم ذاتي حتى، فحجم التناقضات اليومية والساعية التي نعيشها لا يمكن وصفها، كيف لنا أن نعيش كل هذا الثقل اليومي على كاهلنا، ولا نفكر فيه قليلاً، كاذبون نحن اذا اخترنا الانزواء بعيداً عن السياسة، وهي تعصف بنا وأصبحت طعامنا وشرابنا وهمنا وحزننا، ضالون نحن اذا قررنا أن نصمت ولا نفكر مجرد تفكير "ماذا يحصل للبلد، ماذا يحصل لنا، ماذا عن الغد، لماذا علينا أن نحتمل كل هذا العيش، مخادعون نحن عندما نضطر أن نبقى في بوتقة الوهم بأننا شعب نعيش بخير، بينما العالم كله يتكالب علينا"..

العبد والأعرج وكل مّن ظل أيقونة في جبين نضالنا المتناقض والمتشابك واللانموذج يحصره.. شكرن ..