الوصـايـا الـعـشر لطـفـولتـي

بالعربي-كتب- اشرف سهلي: 

أختي الأصغر مني سنّا أوصتني أن أبوح بكل شيء وألا أخفي أيا من مظاهر الرهاب تلك…

إحداها أن القمل حين يغزو شعورنا كان علاجه الضرب في الحمّام، فشامبو سنان وذاك المشط الأحمق اللئيم بالانتظار في يدّ أمّي!

تلقيني في البانيو مرغما على تذوق شتى أنواع الجعلكة والسلخ .. والتهمة: “مقمّـل”، وأما الليفة فهي عبارة عن وسيلة التعذيب الأسوأ.

للأمانة هي تجربة الاعتقال الأولى في حياتي العربية، ولا أظنها تقلّ ضراوة عن زنازين الأفرع الأمنية سيئة الصيت، فهي أي تلك الوصايا، زرعت مئات عقد النقص المعلنة والخفيّة في عقول من صاروا جلادين لاحقا.

أتذكرني أتناول “الهيلطية” بالسميد التي تسلق اللسان سلقا، على ضوء شمعة أو مصباح كاز، تزامنا مع الانقطاع المقيت في الكهرباء، لا خيار أمامي سوى الابتعاد عن أنظار أمي لبصق ما وضعت في فمي، قبل أن أتعرض لقرصة في القلب – عقوبة باصقي النعمة!-  في حال اكتشاف أمري.

على أي حال؛ بدأ الجدّ الآن، فالتسعة ونص من عشرة في المذاكرات، لا تقي زعل الوالدين وامتناعهما عن الحديث إلينا أسبوعا كاملا.

وأما عسر الحال فلا يبرر لمن هم أطفال استهداف صحني البيتيفور والفواكه، وأكواب العصير المقدّمة للضيوف، فـ”الكفكفة” و”ليّ الآذان” في الانتظار بعد الفاصل.

وكذا، فالإرغام على النوم تمام السابعة مساء، في يوم عطلة دافئ، وهو بطبيعة الحال وقت للحركة والنشاط البشريين، لا يبرر لدى والديّ عدم مقدرتنا على الدخول في حالة السبات!

وكم هي ثقيلة تلك الأغطية المسمّاة بـ”اللحافات”! بصراحة هي تجربة الاعتقال الثانية في حياتي، حيث لم يسمح لي خلالها بدخول الحمّـام، منعا لاستخدامه كوسيلة للهرب من النوم الجائر.

أستيقظ في اليوم التالي مخدّر الخدّين، فوالدتي اعتادت على قرصنا من الوجه حين يرفع أي منّـا الصوت مطالبا بالحقوق، وليعطى خرجيته الشحيحة على دفعات عقوبة على تجاوزه المحظور، هي صلوف منزلية من قمع الحريّـات.

بقايا أناي في المخيم …

لن أنسى يوم اشتريت القضيّة فخرجت إلى الجسر -مدخل المخيم- مع حشود الطلاب الغاضبين، ردا على إعدام قوات الاحتلال الطفل محمد الدرة، كنت حينها في الصف السادس، وكانت صورة البوكيمون “سايداك” في جيب مريولتي الكاكية المقيتة، الصورة تلك هي المفقودة في الألبوم الذي أحتفظ به، وإيجادها يعني الظفر بكرة قدم آديداس من محل العايدي المجاور.

في تلك اللحظة بالذات ألقى أحدهم العلم “الإسرائيلي” المحترق من علو، فـ”شاطه” أحد التلاميذ عليّ، لتحترق يدي اليسرى ومعها أذني اليمنى وشعري، ولا أعلم إلى اليوم ما سرّ احتراق “يد وأذن من خلاف”، كل ما أعرفه أن صورة سايدك ظلت مفقودة إلى يومنا هذا، كم كنت حزينا على فقدان الصورة، وأرجح أنها عين الحسيدة من صبية جيلي حين شاهدوها معي في دورة المدرسة.

صرت وطنيا بإرادتي ورغما عنّي في تلك اللحظات، بالطبع أنا مدين لكل الذين أطفؤوا حريقي، لكن المفارقة أنّ ذاكرتي استوحت في لحظة اشتعالي وركضي مشهد احتراق السجينات في مسلسل كاسندرا المكسيكي، ذاك الذي كنت أحب مشاهدته وأنا ابن خمسة، حين كان لصوص البلد يسرقون متاجر الشعب الغارق في عيون البطلة الغجرية.

الحزن انتهى، وأما سعادة الثائر المنتشي بالاحتراق من أجل القضية فاستمرت، بل تعدتها إلى فرحة عميقة بعد الظفر بإجازة مدرسية مبررة، ثلاثة عشر يوما نظرا لحالتي الصعبة، وأما الهدايا فكانت متناسبة مع ذوقي إلى حد كبير.

حفظت في تلك الفترة معظم الأغاني (طل سلاحي من جراحي.. طالعلك ياعدوي طالع.. ياجماهير) التي يعاد بثها مرارا على قناة فلسطين، فالأخيرة كانت على غير ماهي عليه اليوم، حيث أنها إحدى محركات الانتفاضة الفلسطينية حينذاك.

وأما العودة للصف، فتخللها توزيع المربّي القدير فهد سلايمة مشكورا، ألواح الشوكولاتة احتفاء بي بطلا قوميا في مدرسة ترشيحا، آثرت حينها اختتام العام بـ”فشخ” في الرأس بعد هزيمتي في لعبة الغميضة، إثر ركلة مقصية غير مقصودة من أحد رفقاء المرحلة أعقبت محاولتي النظر إليه من ثقب الباب الأزرق في (الصف السادس هـاء)، لقد كنت مختئبا بغباء في الخلف،  لا يهمّ فأنا حصلت على الدرجة التامة (مئتان من مئتان) بعد موسم حافل، رغم وجود تسعة من عشرة واحدة في مادة الآنسة وفاء معلمة مادة الرياضيات.

الإعدادية لم تكن أفضل حالا، فما معنى أن أستيقظ مع طلوع الضوء على نكد الأهل الذي يعقبه صراخ ونكد مدرّس مادة الهندسة في صفي بمدرسة المالكية، ولن أذكر اسمه فأنا أخشاه إلى اليوم! وكأننا وقت الدرس في جنازتنا أحياء نتمايل من التعاسة والنعاس، إنه يواصل منذ السادسة رسم الدوائر والمثلثات على السبورة مستخدما البيكار والكوس وأدوات أخرى، للأمانة كان لحوحا وكنا طلابا صبورين جدا.

جردة الحساب الأخيرة…

في نهايات حقبة طفولتي، علّمني الشارع اليرموكي، بما فيه من مدارس وهي شوارع مغلقة في قاموسي، علّمني أن أفهم الشللية وأتعود الانزواء، وأن أقول كلمات من شأنها الدلالة على أني ولد كبير؛ فـ”الخيا والشلي والزخامة والسكلما، مسبحة الشيطان، الرتابة، صرووخ، الميازة السوكة، الفرتنة، التقسيم، تشيكية، اب عماااار خياااا…….. المراجل” جلّها تحتاج إلى توضيحات سأضطر للإفشاء عنها لاحقا على جدران هويتي المنثور..

أشعرني كبرت قليلا، وصارت طيور “البربريسي واليهودي والسيكي والبقدونسي وكشّات الحمام” الصاعدة من على سطوح أبنية المخيم، طائرات ضخمة.. وأضحى برازها الذي نعتبره رزقة من السماء، براميل “تي ان تي” متفجرة.

وكأن البوكيمون حقيقة قابلة للتطبيق! أو أن سايداك المفقود تقمّسته أرواح شريرة يحرق عبرها ما يشاء، على أي أحال أظنني بالغت بشؤمي حيال الطيبين أهلي وجيراني ورفاقي، غير أني مازلت طفلا قادرا على قول كل شيء رغم تراكم الكوابيس.

المصدر (القدس الاخبارية)