لم اعرف الحكيم!

بالعربي- كتبت أسماء عوّاد:

في الآونة الأخيرة توّلدتْ لديّ قناعةٌ مفادُها: أنّه من المعيب الحديث عن الأموات في سياقاتٍ "مناسباتيّة" فقط؛ فكلُّ الأفعال التي نزجّ بها في النصوص المتعلّقة بهم "ماضيةٌ" بشواهدِ قبور. أفلا تشعرون بهم يبتعدون شيئًا فشيئًا عنكم في اتّجاه أفق النسيان؟!

إذًا، لماذا نكتب عمّن رحلوا عنّا؟

ألكيْ نتعلّم من تجربتهم؟ أمْ للاسترشاد بما أورثونا إيّاه؟

هنا تتبادر إلى ذهني الفكرةُ التالية: إذا كنّا ورثةً مبذِّرين، فما هو مآلُ التركة التي حصلنا عليها؟

هي مجرد تساؤلات. أُعمل عقلي بالتفكير فيها، من دون انتظار الحصول على قوالبَ لإجاباتٍ جاهزة؛ ففي النهاية ثمّة شيءٌ ما في داخلي ينتمي إلى جموع الورثة المبذِّرين أنفسِهم. وبالطبع، أتمنّى استثمارَ حصّتي الشخصيّة في حكمةٍ أكبر من أجل زيادة رصيدي الإنسانيّ في محاربة تجّار الحياة، ولا مآربَ أخرى لديّ. ولذلك يمكنني القولُ، بأريحيّة، إنّني كنتُ من المحظوظين الذين لم يقابلوا جورج حبش في حياته؛ ما أتاح لي فرصةَ التفكير فيه بموضوعيّة.

أنا مجرّدُ فتاةٍ تقدّمتْ نعشَه، حاملةً صورةً ملوّنةً له، ممسكةً بها من إطارها الخشبيّ، كي لا تنطبعَ بصماتُ أصابعي على الرسم.

ليس بيني وبين الرجل أيّةُ تجربةٍ شخصيّةٍ تجعلني ممتنّةً لدماثته وطيبِ خلقه وحُسنِ معشره. لذلك أنا محظوظة، نعم محظوظة، بالمسافة الفعليّة التي فصلتْ بيننا. ولا يعيبُني أنّني لم أتناولْ معه صحنَ مجدّرة، ولم يربِّتْ على كتفي، ولم أقرأ له الجريدةَ اليوميّة، ولم أحضرْ معه أيَّ مؤتمر أو اجتماع، ولم أتلقَّ منه تهنئةً بالعيد، ولم أشاركْ في عمليّة تحريره من أيّ سجن... بل إنّني لم أقرأ آخرَ كتابٍ صدر عنه.

لقد تشاركتُ مع الحكيم ورفاقِه ما هو أعمقُ من ذلك: أرضيّةً مشتركةً في فلسفتنا تجاه الحياة. اجتهدَ هو، من منصبه كمؤسّس وأمينٍ عامّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، ومن قبلها لحركة القوميين العرب؛ واجتهدتُ أنا أيضًا حين انخرطتُ طواعيةً في امتداد هذه التجربة في الأردن، ومن بعدها في الخروج من صفوف الحزب والانكفاء. وأعتبرُ أنّ هذه كانت الاستفادةَ الأولى على الصعيد الذاتيّ من مدرسة الحكيم ورفاقه؛ فقد اكتسبتُ القدرةَ على تحطيم الأصنام وصورِ المناضلين النمطيّة، وذلك بتناول تجربتهم على قاعدةٍ عمادُها: الفعلُ لا العاطفة.

الجانب الوجدانيّ في علاقة الرفاق بالحكيم ألقى بظلاله على عمليّة النقد داخل إطار الحزب وخارجه، وخصوصًا عند طرح مسائلَ تتعلّق بمعضلة خلقِ كوادر حزبيّة بديلة تتحلّى بكاريزما متّفقٍ عليها من الخصوم السياسيين قبل الأصدقاء. إنّ حصرَ الشهادة عن الرفيق الأمين العامّ من باب "حبش الإنسان" مؤشِّرٌ على القصور في استثمار ترِكتِه، وتركةِ رفاقه الذين لم نسمعْ ببعضهم؛ فنحن نتحدّث هنا عن أحد أبرز الرفاق الذين أسّسوا لتجربةٍ كانت فريدةً من نوعها في مرحلةٍ تلَت خسارتَنا المأساويّة عام 1967؛ ولكنّهم تجاوزوها، واستطاعوا إثبات خطّهم الثوريّ باتّجاه تحرير كامل التراب "من النهر إلى البحر."

رحل الحكيم قبل أقلّ من عقد، بعد شيخوخةٍ أتاحت المجالَ لنقده في حياته، والاستنارةِ برأيه، وتدوينِ مذكّراته على أيدي رفاقه، وجمعِ أرشيفه. ولكنّ ذلك لم يَحدث بشكل جدّيّ! وليس هناك أبلغَ من هذه الخسارة الحزبيّة إلّا ضريحُ الحكيم في مقبرة سحاب (الأردن)؛ فالعبارات التي تزيّن النُصبَ، والأعلامُ، وبهرجةُ الورود، تليق بضريح رجلٍ من البرجوازيّة الوطنيّة.

أن نشعرَ بالشكر له لقاءَ ما قدّمه دعمًا للقضية، فذلك أبعدُ ما يكون عن الحكيم المناضل الصلب الذي خرج  ــــ مع رفاقه ــــ برؤيةٍ تتجاوز إطارَ القوميّة الضيّق إلى ما هو أوسع، وذلك من خلال قراءتهم لمعادلة الصراع بجوهرها الطبقيّ الأفقيّ، ومن خلال تسخير القوميّة كرافعة من أجل تحقيق أهدافنا المرحليّة والاستراتيجيّة، لا كمعوِّق يعيدنا خطواتٍ إلى الوراء.

يحزنني الوضعُ اِلحاليُّ الذي وصلتْ إليه جماهيرُ الحكيم المبعثرة ما بين الماضي التليد، ومحاولةِ التجديد والتصادم مع العقليّة الحزبيّة الكلاسيكيّة التي استعصت عليها مواكبةُ الواقع برشاقة. ويثير حفيظتي عدمُ الاسترشاد، على أقلّ تقدير، ببواكير تجربة الحكيم والرفاق في حركة القوميين العرب، وفي الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين كفصيل تحرّري ثوريّ ارتكز على دعائمَ عدّةٍ كان الفكرُ أهمَّها. ولا يضير أيًا منّا، أكنّا حزبيين أمْ خرجنا من صفوف الحزب وما زلنا متمسّكين بثوابته، أن نعيدَ قراءة تجربة الحزب بعيدًا عن سياقاتٍ تستحضر الماضي والبكاءَ عليه. بل يجب علينا عقدُ المقاربات، والتمسّكُ بمنهجنا العلميّ في التحليل، كي تبقى بوصلتُنا واضحةً، في زمنٍ اختلطتْ فيه التحالفاتُ، وتلوّن العدوُّ، وانجرفنا رغمًا عن إرادتنا من طرق النضال الواضحة إلى مساربَ فرعيّةٍ ابتلعتْنا دوّاماتُها.

إنّ أسوأ سؤالٍ يتعلّق بتجربة الحكيم، وقد سمعناه وسنسمعه كثيرًا، هو: "ماذا لو كان الحكيم بيننا؟" هذا بالضبط هو التفكير النمطيّ الذي يُغيِّب فهمَ الواقع، ويؤدّي من ثمّ إلى الفشل في محاولة تغييره. مثلُ هذه الأسئلة سيجعلنا نراوحُ مكانَنا، مجرّدَ متفرّجين سلبيّين غير قادرين على النهوض لقرع الجرس الذي علّقه الراحلون. وهو، بكلّ تأكيد، السبب وراء المقالات المناسباتيّة كهذا المقال.

أين نحن؟ وماذا نحن فاعلون للنهوض بالحزب؟

هذه الإجابة موجودة لدى قيادة العمل عند الرفاق في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. فكما قال الرفيق جورج حبش في السابق "الحزبُ قيادتُه أوّلًا،" أي إنّ المسار التصحيحيّ يأتي بقرارٍ من قمّة الهرم لقواعده العاملة والمتدرّبة.