"إسرائيل" عندما تعوِّل على الواقي الذكري

بالعربي- كتب عز الدين التميمي:

 "حين أرى أجنبيًا أو أجنبية يتحدّث عن تحديد النسل في أي قرية في الضفة، لا أستطيع فصل الأمر عن كل أحاديث التوازن الديموغرافي؛ هاجس "إسرائيل" الدائم...كيف تتحول ورشة صغيرة تعقدها سويسريّة في خربثا (قرية فلسطينية) لتعريف نسوة القرية بالواقي الذكري، وكيفية استعماله، وأهمية إقناع أزواجهن باستخدامه، إلى حلقة في الصراع؟. رواية رام الله الشقراء.

الانتباه إلى ما يقال "إسرائيليًا" في السنوات الأخيرة عن الزيادة السكانية الفلسطينية، يدلل على وجود هوس لم يكن مسبوقًا بهذه الصورة عن الصراع الديموغرافي بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين".

وليس جديدًا اعتبار "الإسرائيليين" للعنصر الديموغرافي الفلسطيني تهديدًا على دولة الاستعمار وعلى مجتمعه، وهذا واضح في جزء من  المبررات والدوافع التي سبقت عملية الترانسفير الصهيوني الكبرى عام 1948، فكانت محاولة إلغاء تفوق العرب سكانيًا، دافعًا من دوافع هذه المجازر.

لكن الجديد على ما يبدو أن هناك ظروفًا ضاعفت من هذا الهوس "الإسرائيلي" بالسكان الفلسطينيين وبتزايدهم، أهمها توقّف الهجرة اليهودية إلى كيان الاحتلال تقريبًا، إلّا من أعداد محدودة، خاصة بعد نهاية الهجرات السوفيتية. وبالتالي انتهاء التعويل على دور الهجرة في الزيادة السكانية.

ولم يكن الهوس الأكاديمي "الإسرائيلي" بالتوازن والصراع الديموغرافيين منعزلًا عن صناعة القرار، إذ لا يخفى قرب بعض منظّريه من مراكز صناعة القرار في كيان الاحتلال، ودورهم في التأثير على قرارات حاسمة مثل قرار الانفصال عن غزة عام 2005.

إذ اعتقد هؤلاء أن الانفصال عن غزة سيلغي سكانها  الكثر من حسابات المفاضلة  الديموغرافية، وسيعيد الغلبة بوضوح "للإسرائيليين".

تأخذ إذن قضية تزايد السكّان العرب مكانًا خاصًّا في النقاش الأكاديمي والسياسي "الإسرائيلي"، ويستغرق الباحثون الصهاينة في تقديرات عدد السكان بعد عشرات السنين، وبالمقارنة بين السكان الفلسطينيين واليهود خلال هذه السنوات، إضافة إلى دراسة تأثير هذا العامل على الحلول المقترحة للصراع العربي الصهيوني. وهذا مصدر التخويف الأساسي من الزيادة العربية.

وللمفارقة، فإن الخصوبة في كيان الاحتلال وإن كانت منخفضة نسبيًا، إلا إنها على عكس المتوقع، آخذة في الازدياد من سنة إلى أخرى، خاصة في الأعوام الخمسة الأخيرة. وهي بذلك من الدول النادرة التي تزداد فيها الخصوبة، رغم أنها تتضمن مستويات دخول عالية، وصادرات صناعية وصناعات حديثة بهذا القدر، وبنية تحتية متطورة، الخ.

أما الخصوبة  في الضفة وقطاع غزة والأراضي المستعمرة عام 1948،  فإنها -وإن كانت مرتفعة نسبيًا- في تناقص ملاحظ، وهذا طبيعي بالمقارنة مع مسار الخصوبة في الدول الأخرى.

والتفسير الأول والبديهي لهذه الظاهرة، هو دور اليهود المتدينين، خاصة الحريديم، الذين تصل نسبة الخصوبة عندهم إلى 8 أطفال لكل امرأة.

وقد تصاعد دورهم في التأثير على الخصوبة الكلية نتيجة ارتفاع نسبتهم من عدد السكان. ومع هذا تبقى معدلات الخصوبة الخيالية عند هذه المجموعات محل أسئلة واستفسارات كثيرة، ويبدو ربطها ضروريًا مع الاحتفاء "الإسرائيلي" بارتفاع نسبة الخصوبة لليهود– مع أنها تصور الخصوبة العربية كمعادل للتخلف، إضافة إلى سياساتها في تدعيم تفرغ هذه المجموعات وتمويله، وإلى الامتيازات الخاصة لهذه المجموعات، وتشجيعات الانجاب.

لا يظن القارئ أن ما نسعى إلى قوله هنا متعلق بتأكيد مقولة الدور الديموغرافي في الصراع ولا نفيها، وقد أشارت دراسات عدة إلى أن  احتمال وجود خصوبة سياسية، أي وجود عائلات فلسطينية تنجب لأهداف سياسية – ليس واردًا في كثير من الأحيان.

لكننا نريد الإشارة إلى الهوس "الإسرائيلي" القديم والجديد بالصراع الديموغرافي، وتحميله ما لا يحتمل من مخاطر واحتمالات، حتى يخال قارئ بعض منُظّري الديموغرافيا الصهاينة أن نهاية الاحتلال ستكون من خلال هذا الصراع الديموغرافيّ. وقدر ترتب على هذا الهوس سياسات كثيرة سواء في محاربة الخصوبة العربية أو في محاولة تنمية الخصوبة اليهودية.

وليس الاقتباس المذكور في بدء المقالة، من رواية رام الله الشقراء، مجرد مساجلة بلاغية، لكنّه يشير إلى حالة خاصة يتضمنها الجنون "الإسرائيلي" بالخصوبة، فتؤكد ملاحظات وشواهد مختلفة على دور المؤسسات غير الحكومية، في عداء الزيادة السكانية الفلسطينية، خاصة أن معظم نشاطات هذه المؤسسات وأجنداتها محكومة برغبات الممول.

في  كتاب روضة كناعنة مثلًا (Birthing (the nation:. University of California Press2002،  إشارة واضحة من خلال شواهد ميدانية إلى الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات في هذا العداء.

وعلى العموم، فإن السلطة في كيان الاحتلال كأي سلطة تستغل المخاطر الموجودة لتبرير سياساتها الأمنية، فتستغل حكومات الاحتلال المتتابعة "التهديدات" الفلسطينية الديموغرافية لتبرير الجرائم أمام الجمهور، وهذه هي الحال من بداية مجازرها بحق الفلسطينيين إلى الآن.

لكن الفرق في حالة الاحتلال ربما أن السلطة على قناعة كاملة بهذه التهديدات والمخاطر وتسير في مسارات كاملة وفقًا لهذه القناعة.

يبقى الوجود العربي تهديدًا لوجود الاحتلال المهدد بطبيعته، ويظل هذا التهديد جزءًا أصيلًا من العقيدة الأمنية لدى الاحتلال، ويظل هذا الهوس بالفلسطينيين تأكيدًا على أن مقولة "إسرائيل الدولة الطبيعية" لا صلة لها بالواقع.

ضمن فهم هذه الظروف، لا يستغرب المرء أن تعوّل دولة الصواريخ والصناعات الأمنية والتقنية الحديثة، على الواقي الذكري من أجل محاربة الوجود الفلسطيني على الأرض.

المصدر( ألترا صوت)