على الطريق، ترك ناجي العلي آخر وصاياه

بالعربي_ كتب: عبيدو باشا

(إلى ذكرى جوزيف سماحة وذكرى داريو)
جدار لا يسقط. هكذا، طاف ناجي العلي في بيروت الإجتياح الإسرائيلي، كموج صلب، رفيق. البحر أمامه والسماء هناك. وجد اللبنانيون، بكاريكاتورات ناجي العلي، بتلك الصيفية الفجة، الطاهرة، الطيبة، فاكهتهم الفتية. رسوم يومية، متلاحقة، لا تخجل من الغناء أمام الطلقات النارية والمدفعية. كل رسم أمل. كل رسم يوم جديد.

لهب متدحرج على لهب اجتياح العام ١٩٨٢، رسوم رقى من الموت، أمام مسيلات الرعب الإسرائيلية. كل شيء كرمل، بالريح. إلا رسومات ناجي العلي وقامات المقاتلين، المقشرين الدبابات الإسرائيلية بقواذفهم الفردية وآياتهم، المسلوخة من كتب مقدسة، داست عليها البغال الإسرائيلية. الحياة أنشوطة على الأعناق، لولا ناجي العلي والصفوف الطويلة من الطاقات والطلقات النارية.

كل الشعر العربي الجديد برسومات ناجي العلي. كلالقوافي. مصطبة على الحياة. كل رسم بارتفاع آلاف الدرجات، على الأرض الجريحة. أوصدت الأيام القديمة الأبواب، على رسم برقة البرق وهو يلجم الإطمئنان. حين انفلق العالم، بدخول قوات الغزو الصهيونية، رسم ناجي العلي على مفرش سريره، واحدة من اللحظات الإنسانية الخالدة، وهو متشح بالكرب. فلسطيني يردد جملة مخلوق ستيفين سبيلبرغ «إي . تي «غو هوم، غو هوم»، مشيراً إلى الفضاء، بعد زلة القدم العربية المدبرة من حكام العالم. لحظة الرسم على سريره. لم يُنشر. ثمة غدر بعدم نشره في بالصحيفة. هزيم صغرى بالهزيمة الكبرى.

فحش الصنيع الوحشي بالهزيمة الكبرى، تركه مهمشاً بنواح طويل طويل. ما عادت الخيم قريبة. ما عادت فلسطين سوى أرض تزدرد ذكريات بشرها وأشجارها وأعشابها وعصافيرها. حين اهتز الوضع وتزعزع، قرأ قراء «السفير» من صفحتها الأخيرة، لا من صفحتها الأولى. مجموعة من غير المتشحين بالأزياء الرسمية والعادية، سخروا عتادهم الرعدي، كأحجار ممطرة، شجت رأس الخوف والذعر من حديد القطار الإسرائيلي، على السكة الدولية. نخروا الحمى الدولية بلطمات صحوهم. إنشدوا إلى الجدران بعزم. ارتفع الخور بين هؤلاء، أمام الدبابات العدوة والجنود الأعداء، بعدما شاهدوهم يخرون على الطرقات والمكاتب وكل يقين قديم. بالغضب المعروض على الأرصفة والواجهات، لم يستطع هؤلاء أن يستريحوا أمام حرائق الأرواح الهائمة، خلف ما لا يرى. بقاعة السينما، سينما الحمرا في بيروت «الغربية» سقطت سدرة الحلم الأعلى عند واحد من أبرز الشخصيات الفلسطينية في التاريخ الحديث. حف بكاؤه بكتفي، بعدما مر مشهد المخلوق الفضائي السبيلبرغي، مشيراً بإصبعه إلى الفضاء. حلٌ من الأرض الغريبة. بكى ناجي على أرض غريبة على الأرض الغريبة، على فلسطين. ودع جحيمه، حين أسر لي، بأن المستعمرات الإسرائيلية باتت أقرب من بيروت ومن كل المدن العربية. طارت الخيم لحظتها. لحظة قال إنّ فلسطين أضحت اليوم، كطائرة من مزق ورقية ملونة، برشها البحر والجبل وبرشتها أشجار الزيتون. برشتها الريح. يرقص السقف فوق رأسي يا عبيدو. لا فضاء حر، لا حرية بعد. الموت على بحر وصل إليه كثيرون على المراكب المحترقة. يرجع الفضائي إلى بلده، وأنا لا أعود .

أبعد الإحتلال الناهض من جذور العالم الإمبريالي، فلسطين، إلى أبد الآبدين. الشمس قرص ٌ أعمى، عند من ركب الريح، لكي يصل إلى بيروت، من مخيم عين الحلوة. تبتعد فلسطين كلما تقترب، قال. قال، كم هي الحياة خاسرة، كم هي الحياة في حل من الناس، حين يجن مخلوق فضائي، بصوت كصوت الجداجد، وهو يرى الوطن، بدون أن يقدر على الغطس بنجومه. نبت الوطن على شفتي ناجي العلي بتلك الأمسية الجرداء. وجده على شفتيه بعدما ابتعد من عينيه. لم يطو الضوء صوته. ساهم الضوء في رسم أجَّل لوحاته. لوحة، زفرة الوقت الطويلة، زفرة الموت الطويلة. مات ناجي العلي في صالة السينما، في ذلك اليوم الطل على أطلال المدينة. مدينة لاحقت فلسطين، لاحقتها بالضوء والظل، بين الأصوات، بالمقاطع الصوتية، على التخوم ، بخفق طائر، بالعلن، بالخفاء، بأصل الكلمات، بعيني غزالة. لوحة غادرت فيها النحلة العسل . لوحة غادر فيها حنظلة اللوحة، بعد أن استنفد قواه، لناجي المتروك في شمسه الأخيرة، حتى يجف ويموت. سكب الفيلم ضوءه على وجه ناجي المقدد. لا شيء على الوجه إلا صور حنظلة الجانبية ونخب الهزيمة، الأقرب إلى صورة فتيات يبتعدن على مغيب.

نحيف، لا يتبختر. أقل شباباً، على المشهد البانورامي الجديد. نتوءات الوجه كنتواءت المدينة. دمع الوجه من بحر المدينة. مالحٌ، مالح، مالح. كشرشفين، متروكين على حبل غسيل، بحضور شفاف لا يُلمس، انتهزنا التناغم بيننا، بالطريق إلى «السفير»، الصحيفة. زجاجة من النبيذ وبيتزا بحجم كبير. دوخنا الهواء، بكؤوس النبيذ. وحين أنَّ الرجل من وطأة المؤامرة، على مشاهد المقاتلين النازحين بالماء، بعد أن نزح أهلهم على الأرض، طلب الرجل الصغير الحجم أن أبارك الهزيمة، بغناء ما عصف بباطنه. وجدته كشجرة وحيدة على ضفة نهر، إذ غنيت «يا حمام يا مروح بلدك متهني / ترضى أنا نوح وانت تغني». أغنية من أغنيتين، بقيتا بأدراج الحصار، نسحب الواحدة منهما، كالنخب المطلوب من الأعلى إلى الأسفل. الأخرى «كان عندي غزال كعبو محني». واحدة لناجي. واحدة لجوزيف سماحة. جوزيف المتأود، بالخطو المعجز، على الغناء، بذاك المدى الخاص. غناء يغذي الحضور الخاص، لفرسان الطاولة المستديرة، بسيف واحد مغروز بصخرة مغرورة، سحبه ملك المرحلة، ثم أهداه للفرسان. سيف الفرسان بمواجهة العدوان. بالغون، لا يخشون تصلب الأعناق ولا يخشون البلل.

طنين مأنوس على صوت الطلقات النارية والقذائف المتهاطلة، بهزات كهزات الجبال، على المدينة المأسورة بالغوص بالرعب وصدوع الدماء. زمن لا يعوض. كل شيء لا يعوض، بزمن لا يعوض. اقتفاء أثر الجريدة بالجريدة، رائحة الجريدة، ورق الجريدة، بشر الجريدة، ذقن الجريدة الراعش، استهزاء الجريدة من الكثير من المشاهد والكثير من الإنطباعات الخاطئة. عدد الجريدة تحت الإبط. ثلاثة، غالباً، ناجي وعدنان الحاج وعبيدو، على رصيف المنارة، على صوت الإغارة. طائرات لئيمة تقصف الصباحات بالقصص المروعة. طائرات تقصف دفء الجمجمة وآخر النوم المعلق على الصُدوغ وبيض العصافير والملائكة ذات الأجساد الصغيرة بالأجنحة بأحجام آذان الأقزام .

في السهرة الأخيرة، ببيت واحدة من الصديقات، ترجرج الجمع بأعطال المدينة. سوف يغوص ناجي في مدينة أخرى، غير بيروت. سوف يخرج من فوهة المدينة إلى مدينة أخرى. أكرر لنفسي، دوماً، آخر الصور. جاء بشر، لكي يودعوه، برجاء أن لا يجدوه. جاء الرجل بدون تصريحات مرسلة. هكذا، بعد أن أطفأنا الليلة الأخيرة بالذكريات، تتبعت وناجي الطريق إلى منزل أحد الفنانين التشكيليين. وجدناه ، كما يجد مغرم صوت هاتف منتظر. اشترى لحن المدينة الجنائزي الأخير، أخرس بلوحات ناطقة ومضى. مضى بعيداً بأكثر من إتجاه. هذا عذره الدائم برحلاته. انحلت ضفيرة الغناء على الطريق. يا حمام يا مروح بلدك.

هناك، على الطريق، الغريق بسجلات القدر، ترك ناجي العلي آخر وصاياه، على عجل، كدراجة نارية. إذا مت، إعرف أن لا أحد يقدر على قتل ناجي العلي إلا بيروت. ببيروت الحياة. لا شيء إلا الكسرات، بعيداً من بيروت. حين خرج ناجي العلي من بيروت مات. ترك على ضفتي حياتي كل حكايات الإجتياح والحصار. حكايات مؤلمة وأخرى بالتواءات عذبة. غيوم وصور ورموز وأنين عميق وعقد سماعية وفتول تاريخ. حين مات في لندن، نشر الموت على أركان العالم. غنيت له، على فتق الأحلام المقتولة، يا حمام. كلمة السر المقررة. قابع بالزاوية، انتبه، إلى أن كلمات الأغنية، انمحت، في صقيع البحث عن الكلمات الجديدة. ذاك العام، ١٩٨٢، عام كامرأة أخرى، بعد أن انكسرت عظام النخاع لمرة أخيرة. إلى الأبد.

الاخبار