أمراض صحية نفسية وبدنية نتيجة "معايير الجمال" في الثقافة الفلسطينية

بالعربي_كتبت: آيات يغمور

"مكتسبة"، تبدو هذه العبارة الأصدق تعبيراً عن "معايير الجمال" والخضوع لمحدداتها، ثقافة مجتمعية متوارثة ومعدلة، وما بين القديم المترسخ والجديد المستورد، تغرق الفتيات الفلسطينيات كما هن الفتيات في سائر دول العالم في تفاصيل تدعي الكمال وتوصف بأنها معايير للجمال دون أن تكون مكتوبة...هي فقط "مكتسبة".

هنا في فلسطين تحديداً حيث البقعة الجغرافية الشرق أوسطية، المعروفة ببشرتها الحنطية وشعرها الغامق دون تعميم، تود الفتيات الفلسطينيات لو يصبحن أكثر شقاراً وأقل سماراً، ويفضلن النحافة على الأجسام الممتلئة التي عرفن بها وتغزل بها عرب الجاهلية.

السؤال هنا يدور حول المسببات، فالنتيجة باتت آثارها ملموسة وتتجه نحو كارثة صحية، نفسية وأخرى بدنية، فما هو السبب وراء سعي الفتيات في فلسطين نحو الالتزام بما يسمى "معايير الجمال"؟ إذا ما افترضنا "مخطئين" أن الجمال يحكمه معيار.

فتيات يصفن معايير الجمال حسب الثقافة الفلسطينية

من خلال مقابلات فردية لفتيات فلسطينيات عن ماهية "معايير الجمال" في فلسطين ومدى تأثيرها عليهن كأفراد يتعرضن بشكل مباشر، وغير مباشر لضغوطات تنتج عن هذه المعايير هكذا كانت إجاباتهن:

ريتا 23 عاماً
"بتخيل معايير الجمال، وبحكم العولمة، وين ما كانت صارت شبه موحدة بتفرض على الفتاة انها تكون بشكل/وزن/وهيئة معينة، مش فقط حكر ع فلسطين. المعايير الغربية للجمال صارت هي الطاغية، المشكلة بتصير لما هذه المعايير تيجي تنفرض على مجتمعات محافظة نوعا ما كالمجتمع الفلسطيني، والفتاة تقع كنتيجة لها بمعضلة ما بين بدها تكون وفق هالمعايير وبنفس الوقت تكون مقبولة اجتماعيا. طبعا بتاثر ع النفسية والصحة البدنية بشكل اكبر من ما احنا بنتخيله، الشعور الدائم بالنقص والرغبة والبحث الدائمين على العيوب بهدف إخفائها او علاجها. المشكلة انه هاي المعايير بتنسينا انه الجمال بحد ذاته نسبي، يعني اللي انا بشوفه جميل غيري ممكن يشوفه غير جميل والعكس. في المحصلة بنضل جوا هالقالب المعياري شو ما نحاول نخرج عنه المجتمع والاعلام برجعنا لهاذا القالب كمان مرة".

أشواق 25 عاماً
"أعتقد أنه الاشي بعتمد على الذوق ورأي كل حد، بس بشكل عام بشوف الناس بتطلع ع شكل الجسم الخارجي الطول والكسم الحلو المليان بطريقة مرتبة، بس غالبا الناس بحسها بتفضل البنت الشقراء وام عيون ملونة، وأكبر تأثير لمعايير الجمال بتكون على الشب اللي بتأثر بالحكي المسموع دائما وتعوّد عليه يعني بسمع من اهله انه الشقار و الطول هي معيار للجمال، فبضل الموضوع عالق في باله وبالتالي بنعكس علينا احنا البنات كمحددات وشروط للإعجاب والزواج بالمحصلة".

حنين 21 عاماً
"يمكن النحافه اهم شي، بحس أكثر الانتقادات بتدور حول البنت الناصحة، إضافة إلى الطول وتأثيره على نفسية البنت وثقتها بحالها، مش عارفة ليش!  مع انو غالبية البنات الفلسطينيات قصار".

هبة 26 عاماً
"أتعس معيار جمالي في فلسطين وتبعاً للثقافة الجمالية السائدة هي لون البشرة اللي صعب أصلاً تتغير أو تتحسن! الشباب بفضلو البشره البيضه للبنت مع انه تلت أرباع الفلسطينيات حنطيات ازا مش سمر".

نظرةٌ تاريخية.. ما هو المكتسب وما هو الموروث؟

لنبتعد قليلاً عن الحقبة الحضارية التي ندّعي عيشها، ولنعد في الزمن إلى الوراء قليلاً، مئة عام بل مئتين، وفي الحالة الفلسطينية سنرجع آلاف السنين إن لزم الأمر، لنرى الكم الهائل من الفترات التاريخية التي تعاقبت خلالها الشعوب والحكام، غزاة كانوا أم قبائل، عاشت في فلسطين وتركت بصمتها الجينية، ليستقر الخليط على البشرة الحنطية عموماً. لنقف عند آخر مئة عام أو أكثر قليلاً حيث نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، فالحملات الصليبية تبعها استعمار بريطاني خلّف وراءه عقدة "البيض" التي كانت رمزاً للثراء وللعرق السامي في زمن لم تستطع السنوات المتعاقبة أن تمحوَ أضراره.

هذا المكتسب قديماً وغيره كثير حديث، من شخوص جعلتهم وسائل التواصل الاجتماعية والتكنولوجيا الحديثة رموزاً للجمال، فغيروا معاييرها وقلبوا موازينها، فبات سقفها عالياً وثمنها غالياً.

أما عن الموروث فكان ما هو سائد، عيون واسعة سوداء وشعر غامق طويل، قامة متوسطة ويفضل الطول هنا، الجسم المكتنز الصدر والخلفية، هذه كانت معايير الجمال العربية، إلى أن غزا العربَ الغربُ، فبات الجمال الغربي مقياساً للحداثة تباعاً.

عندما يصبح الجمال هوساً ومعاييره أمراضاً: بدنية ونفسية.

لم تكن أخصائية التغذية مجد سباعنة وطوال فترة دراستها، وتدريبها، وبداية عملها، تعلم أن أمراضاً صحية قاتلة متفشية في المجتمع الفلسطيني إلى جانب السمنة، ولكنها وبعد حين أدركت أن للتغذية دوراً في درء المرض أو جلبه، فمن الفتيات من يستخدمن الغذاء كرد فعل "نفسي" إيجاباً كان أم سلباً.

تقول مجد سباعنة، والتي تعمل في عيادتها على وضع برامج تغذية صحية لفتيات: "إن غالبية الفتيات تهدف  إلى خسارة الوزن، منها ما هو زائد، ومنها ما هو طبيعي، ولكن البعض منهن بحاجة إلى اكتسابه لا لخسارته".

الميل نحو النحافة ورفض الجسد الممتلئ

يتراوح الوزن الطبيعي في مدى وسعه 10 كيلوغرامات، فيه الحد الأعلى والأدنى، ولكن مجد أكدت على أن الفتيات يملن نحو الحد الأدنى من هذا الوزن الطبيعي، ويفضلن النحافة على الجسم الممتلئ حتى لو كان صحياً، لا يجدنه جذاباً.

الرفض الذاتي للوزن، ومدى الرضى عن الهيئة الخارجية يمكن أن يكون دافعه شخصياً، وهو ما أوضحته أخصائية التغذية: "عديد من الفتيات اللواتي بدأن مرحلة المراهقة يزيد اهتمامهن بمظهرهن الخارجي، والوزن هو أول ما يبدأن التفكير به خلال هذه المرحلة، التي تشهد تغيرات جسدية هائلة من شأنها أن تؤثر على الفتيات الصغيرات، وثقتهن بأنفسهن إذا ما عازهن الإرشاد النفسي والثقافة الصحية حول الصحة البدنية".

الوعي لدى الأهل ينعكس على فتياتهن، هذا ما أضافته مجد سباعنة في حديثها عن توجه الفتيات اللواتي يمتلكن فعلاً مشكلة صحية في الوزن الزائد: "هو أمر من الجيد إدراكه، ولكن يتوجب الحذر من تأثر هذه الفئة العمرية من الإعلام ومشاهيره من الإناث اللواتي يظهرن بهيئة شديدة النحافة على صورة "أبطال".


النحافة كمتطلب وشرط لإرضاء الطرف الآخر

يمكن أن يكون الطرف الآخر زوجاً، أو حبيباً، أو حتى مجرد صديق من الذكور أو الإناث، وبحسب دراسات اجتماعية، فإن المسبب الأول للتأثر بالصورة المثالية وعدم الرضى عن الهيئة الخارجية، هو الأهل والأصدقاء من المقربين. وهو ما أشارت إليه أخصائية التغذية التي تحدثت عن مريضاتها اللواتي يأتين دون إرادة منهن لخسارة الوزن: "منهن المتزوجة من شخص يريدها عارضة أزياء نحيفة لا تشوبها شائبة، وزنها طبيعي لكن النحافة غرضه ومطلبه، فيظلمها بطلب خارج عن إرادتها، فتأتي إطاعة لرغباته لا طوعاً".

وتضيف مجد:"ومنهن من رفضت الالتزام ببرنامج غذائي وضعته لها، فلا جدوى من قدومها سوى تنفيذ طلباتِ زوجٍ يشترط النحافة؛ لاستمرار حياتهم الزوجية". وهنا شرحت مجد موقفاً طلبت فيه مقابلة زوج مريضة لديها علّها تستطيع إقناعه بأن وزن زوجته طبيعي، ولا جدوى من إخضاعها لغذاء معين بهدف خسارة الوزن.

ومن أشد المسببات والمؤثرات هن الصديقات، اللواتي يتفاخرن بخسارة أوزان هائلة للحصول على أجساد كالمشاهير، فتصبح خسارتهن للوزن إنجازاً...وهنا تكمن المصيبة!

النحافة المفرطة...النحافة المرضية
ما بين البوليما والأناروكسيا


المعضلة الصحية التي أوجدتها مسببات عديدة على رأسها الإعلام، الذي يدخل إلى بيوتنا ويتغلغل في عقولنا صغاراً كنا أم كباراً، فلكل دعاية جمهورها ولكل معيار جمالي مصطنع ثمنه التجاري الذي قد يؤدي في عديد من الحالات إلى كوارث صحية...نفسية أو بدنية.

تقول مجد بأنها كانت يوماً تشجع مريضة على فقدانها للوزن ظناً منها أنها تتبع النظام الغذائي حسب ما هو متفق عليه ومجدول، لكنها أدركت فيما بعد بأن المريضة التي تشجع، لم تكن إلا مريضة "بوليميا" أي مصابة بمرض "الشراهة"..الأكل المفرط، ثم الاستفراغ.

بعيداً عن القرحة، والحموضة القاتلة التي تصيب مريضات البوليميا، إلا أنهن يأتين -وكما أوضحت مجد- من تلقاء أنفسهن، دون إجبار من الأهل. هن في غالبيتهن مراهقات أو في بداية العشرينات، أعمارٌ صغيرة سئمت محاولة خسارة الوزن وحاولت العديد من الطرق، ولجأت يائسة إلى الاستفراغ، ولكن في نهاية المطاف تتعب أجسادهن، وتتراجع صحتهن فيذهبن إلى أخصائية التغذية رغبة في الاعتراف بالمرض، وأملاً في علاجه.

حالة من الإنكار..

نفسيٌّ في الدرجة الأولى، مرضٌ ينكرن الفتيات إصابتهن به ويرفضن تشخيصهن به، لا يهمهن انقطاع دورتهن الشهرية، أو مشاكل التنفس التي تلحق بهن، يحببن هيئتهن ويتباهين بالنحافة التي وصلن إليها بـ"مجهودهن الشخصي" حسب ما يصفن، هذا ما أخبرتنا به مجد في حديثها عن مرضى الأناروكسيا اللواتي يرفضن تناول الطعام ولا يرغبنه.

تؤكد أخصائية التغذية على أن منبع المشكلة نفسي، ضغوطات اجتماعية، ومشاكل تفكك أسري، عدم الاستقرار يدفعهن نحو العزوف عن تناول الطعام، وعندما يلحظن نزول أوزانهن تعجبهن النتيجة، ويواصلن على هذا النهج سنوات عديدة وهن يعتقدن بأن أوزانهن طبيعية وأجسامهن جميلة ونحيفة، بل ويعتقد البعض منهن أن نحافتهن ليست نحافة، وبأنهن ما زلن بحاجة إلى خسارة المزيد فالمزيد من الوزن! أصعب حالة هي الأناروكسيا فمريضاتها لا يأتين طوعاً، ولا يردن العلاج ويرفضنه، بل ينكرن إصابتهن بهذا المرض من الأساس.