هل حقا سرق "درويش" عبارة "على هذه الارض ما يستحق الحياة"؟

بالعربي: كتبت حنين عمر

على قبر محمود درويش شاهدة تتزين بعبارته الشهيرة: (على هذه الأرض، سيدة الأرض… ما يستحق الحياة)، ولا أعرف أذية أسوأ من أن يتم اتهامه بسرقة هذه العبارة بالذات، وتجريدها من اسمه بعد أن اختارها لترافق نومه الأبدي، لتصبح بذلك محلّ جدل بين المدافعين عنه والمتحاملين عليه.

قال المدافعون عن درويش بأن تطابق العبارتين بينه وبين نيتشه، ما هو إلا توارد خواطر أو نوع من الاقتباس المشروع، ولا أعرف لماذا لم يبحثوا عن دليل البراءة، فهم يعلمون بأنها حجة واهية ولا يمكن أن تبرر اقتباسا حرفيا من ملكية فكرية غير مشاعة. أما المهاجمون فكان دليلهم الوحيد هو وجود العبارة في كتاب «ديوان نيتشه»، ترجمة مـحمد بن صالح وصدر عن منشورات الجمل عام 2009، ضمن نص حمل عنوان «أغنية للشرب»، ورد في الصفحة 244 وجاء فيه: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة: يوم واحد قضيته مع زرادشت علمني أن أحب الأرض».

لكن… هل هذا دليل كافٍ لإدانة شاعر بحجم محمود درويش وتداول خبر تجريده من أخلاقيات الموهبة وتحويله إلى لص، ثم نشر القضية على نطاق واسع حتى بات كثيرون يذيلون جملته باسم الشاعر الألماني؟ بالنسبة لي على الأقل..لم يكن الأمر كافيا.

فبحكم معرفتي بأن ما يتم ترجمته غالبا إلى اللغة العربية لا علاقة له بالنص الأصلي بعد أن قارنت مئات النصوص المترجمة بأصولها وأصبت بالصدمة من هول المجزرة، قررت البحث بنفسي عن الحقيقة الموجودة في الكتاب الأصلي لنيتشه، لأعثر أخيرا على نسخة منه، صدرت عن مطابع س.ج نومان عام 1891 في مدينة لايبزيغ، أي أثناء حياة نيتشه الذي توفي بتاريخ 25 أغسطس/آب عام 1900، وهو بالمناسبة ليس ديوانا شعريا، بل رواية فلسفية من أربعة أجزاء (لا أعرف كيف تحوّل إلى ديوان )، وبعد بحث دقيق وجدت النص الأصلي في الجزء الرابع، الصفحة 119 (التي تم إرفاق صورتها مع المقال)، وجاء فيها ما يلي:

Und dass ich so viel bezeuge, ist mir noch nicht genug. Es lohnt sich auf der Erde zu leben: Ein Tag, Ein Fest mit Zarathustra lehrte mich die Erde lieben.

الكلمات واضحة لمن يتقنون الألمانية، لكن حرصا على استحضار روح الحقيقة، أرسلت المقطع إلى مسقط رأسه، واتصلت بالشاعر نورس ابراهيم في ألمانيا وكلفته بالتدقيق الحرفي لكل كلمة في النص، وقد حصل ما توقعته تماما وجاءت ترجمته الحرفية كالآتي : «ومع أنني شهدت الكثير، ولكن مع ذلك لم يكن هذا كافيا لي، نعم.. لقد اكتشفت بأن الحياة تستحق أن تُعاش فوق هذه الأرض.. يوم واحد مع زرادشت احتفال واحد، علمني كيف أحب هذه الأرض».

وللتأكيد أكثر على أن هذه الترجمة لا تمت للعبارة الدرويشية بصلة، ولمن لا يتقنون الألمانية، يمكن الاستعانة بشاهد آخر، إنه كتاب «هكذا تكلم زرادشت» الصادر عن دار الجمل نفسها عام 2007، للمترجم علي مصباح الذي يبدو جهده أفضل من غيره، وجاء في الصفحة 587: «الحياة فوق هذه الأرض أمر جدير بالعناء، يوم واحد، حفل واحد، مع زرادشت، علمني كيف أحبّ هذه الأرض» . فكيف تحوّلت العبارة ذاتها إلى عبارة درويش في الترجمة الجديدة لمحمد بن صالح؟

وفوق كل هذا سأضيف دليلا أخيرا يقدمه لنا المترجم هنري ألبير الذي قدم ترجمة فرنسية للأعمال الكاملة لفردريك نيتشه، عام 1903، والصادرة عن مؤسسة «الزئبق الفرنسي»، حيث نعثر على المقطع المطلوب في الصفحة 459، وجاء مطابقا لترجماتنا:
Il vaut la peine de vivre sur la terre

في حين أن ترجمة عبارة درويش الحرفية إلى الفرنسية تكون كالتالي:

Sur cette terre…il y a ce qui mérite de vivre

إن الفرق إذن واضح جدا بين العبارة التي وردت في الرواية الألمانية وبين العبارة المقتطعة من النص الشعري العربي، ما يؤكد أن محمود درويش بريء من سرقة نيتشه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا علاقة بينهما مطلقا إلا في استخدام كلمات متشابهة لقول عبارتين مختلفتين في المعنى، ففي حين يقول نيتشه بأنه اكتشف أن الحياة تستحق أن نعيشها بمعنى أن نخوض تجربتها وأن نمارسها، فإن درويش يرى أن على هذه الأرض – أرضه، سيدة الأرض- ما يستحق أن يعيش وما يستحق أن تكون له حياة وما يستحق أن يظل حيّا، بل تجاوز ذلك في نصه إلى ذكر هؤلاء المستحقين للحياة: تردد إبريل، رائحة الخبز، آراء امرأة في الرجال، كتابات أسخيليوس، أول الحب، عشبٌ على حجر، هتافات شعبٍ… وغيرها.

بالمختصر: الحياة في عبارة نيتشه هي التي تأخذ استحقاق «أن نعيشها» وأن نمارسها، أما في عبارة درويش فـإن ما عدده من أشياء على هذه الأرض هي المعنية باستحقاق «أن تعيش» وأن تمارس وجودها، إن الفرق بينهما في المعنى لا يحتاج إلى دار إفتاء.

وأضيف أيضا، أن عبارة نيتشه جملة متداولة جدا في السياقات الثقافية والفكرية، والقول بأن درويش نقل عبارته عن نيتشه، قول باطل، لأن العكس هو ما حدث فعلا، فالمترجم هو من اختلسها من درويش بعد موته ونسبها إلى نيتشه، واستند المهاجمون على العبارة المزيفة لصنع عاصفة داخل فنجان، غرضها تحطيم صورة الشاعر الكبير وهزّ ثقة القارئ في منجزه مما سيجعل كثيرين يستحلّون السرقة من غيرهم (أسوة بكبيرهم الذي علّمهم الشعر) ولو كانوا يبحثون عن الحقيقة كما يدّعون لكلفوا أنفسهم عناء البحث عنها وكشف مصدرها كما فعلنا أعلاه، قبل الهجوم عليه.

إن هذه الحادثة تكشف في النهاية هشاشة المنظومة الثقافية والفكرية واستسهال التدمير والتدليس والتخريب، كما تكشف خطورة جرائم الترجمة على تاريخنا، فلن يتوقف الأمر عند العبث بالنصوص الأجنبية، بل يمكن لأي مترجم غدا أن يستنسخ قصيدة أي شاعر ضمن ترجمة ما، ثم يدعي هو أو أي قارئ عابر أن صاحب العبارة الحقيقي هو من سرقها، وسنجد كثيرين يتداولون المعلومة الكاذبة… لكن من سيعترض؟ لا أعرف .كل ما أعرفه هو أننا جميعنا في خطر ضمن هذه الفوضى، ولا عزاء لنا في النهاية وسط كل هذا الضياع الذي نعيشه، سوى أن العبارة الفلسطينية الضائعة عادت اليوم لأرضها و لصاحبها، وآن لدرويش أن ينام في قبره مطمئنا.

٭ كاتبة جزائرية

المصدر: (القدس العربي)