اخترنا أن نكون عبيداً

بالعربي:كتبت روزماري سليمان

بما أننا مجتمع متدين بطبعه فمفهوم العبادة هو جزأ لا يتجزأ من حياتنا اليومية.. ولكن مؤخراً بدأ المفهوم يأخذ أشكالاً أخرى، فليعبّر شخص معين عن حبه للآخر يستخدم لفظ (حب العبادة) وليعبر الشعب عن حبه للجيش يطلقون على أنفسهم (عبيد البيادة)، وما إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا حصر لها، والتي تؤكد أن أغلب مفاهيمنا حول العبادة مجرد مسميات مغلوطة..

إن ما يثير دهشتي بشكل كبير هو أن لقب (عبد) من المفترض به أن يكون لفظاً سيئاً يُطلق على من سُلبت منهم حرياتهم غصباً واقتداراً، فنحن لسنا عبيداً بل أبناء مكرمون، لكن الغريب في مجتمعاتنا أن الناس تهلل فيه للعبودية بكل أشكالها تحت مسميات ليست في محلها كالوطنية والانتماء والمحبة الجمة، رغم أنه لا توجد هناك أدنى علاقة بين العبودية وتلك المسميات السالف ذكرها..

لا أعلم إذا كانوا يعلمون ذلك ويختارون بإرادتهم العبودية أم أنهم لا يعلمون كم الخسائر الفادحة جراء التخلي عن الحرية.. مقابل العبودية.. فإذا اخترت عبوديتك ضاع حقك، وحق أبنائك، ولن يمكنك المطالبة بأي شيء.. هذا ما تعنيه كلمة العبودية.

إن حق الإنسان في التمتع بإنسانيته هو مثل حقه في الطعام والشراب والحياة الكريمة، هو جزءٌ لا يتجزأ منه، هو كرامته.. هذا هو مضمون أول بنود ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان؛ أن يعي كل فرد على هذا الكوكب أنه مساوٍ لأي شخص بغض النظر عن عرقه أو لونه أو جنسيته في الحقوق الإنسانية، كان هذا الميثاق بخصوص تعاملات الناس مع بعضها، ولكن للأسف أغفلت كل مواثيق حقوق الإنسان، وَضع بنوداً لحمايته من نفسه، فقد يختار بيده العبودية أو أن يصبح مواطناً درجة ثانية أو حتى أن يصبح كائناً مهمشاً تطبيقاً لبعض الأعراف.

والقوانين أو حتى التزاماً بنصوص دينية مغلوطة التفسير من شأنها إهدار كرامته كإنسان؛ ليصبح بذلك عدواً لنفسه، هذا هو السؤال الذى لم تضعه كل منظمات الأمم المتحدة والهيئات الدولية بالحسبان؛ ماذا لو تخلى الإنسان عن حقه في الإنسانية بمحض إرادته؟ ماذا لو اخترنا بأنفسنا أن نكون عبيداً؟

عندما أراد عبدالرحمن اليوسفي، الوزير الأول في حكومة التناوب التوافقي بالمغرب التسوية بين الرجل والمرأة، خرجت أكثر من مليون امرأة تتظاهر ضد فكرة اليوسفي، متهمين إياه بالكفر والضلال، ومؤكدين أن مكانة المرأة الطبيعية أقل من الرجل، قد تتمكن المنظمات من توعية الناس لحقوقهم، ولكنها لن تتمكن أبداً من تغيير قناعات فكرية راسخة؛ لأن حق الأفراد لا يوهب ولكنه يؤخذ بالكرامة، والإيمان باستحقاقنا لنوال تلك المطالب، لهذا عندما نختار العبودية يجب ألا ننتظر من المجتمع أن يعطينا حقوقنا التي سَلَبْنا أنفسنا إياها.

إن فكرة سلبِ الإنسانِ نَفسَهُ أبسطَ حقوقِهِ ليست وليدة عقلياتنا فقط، بل إنها نتاج تراكمات فكرية ومجتمعية عتيقة أساسها مبدأ الكيل بمكيالين، فعلى سبيل المثال تحدثنا مجتمعاتنا العربية كثيراً عن الديمقراطية والمساواة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات، ولكنها لا تطبق تلك المبادئ فعلياً، ونسبة "الكوتة" النسائية في المجالس التشريعية بمجتمعاتنا خير دليل على صحة ما أقول، تنبري مجتمعاتنا أيضاً في الحديث عن أنها أصل التنوير والحضارة للعالم، ولكنها ترفض تولية امرأة شؤون البلاد السياسية.

إن مبدأ الكيل بمكيالين هو سبب ضعف مجتمعاتنا، ندواتنا عن مبادئ المساواة بين الرجل والمرأة هي مجرد إيمان شفهي لا يعبر عن يقين الغالبية العظمى أن المرأة أقل مكانةً من الرجل، وأنها غير مؤهلة للمناصب القيادية، وقد تناسوا أن عصر الملكة حتشبسوت كان من أزهى وأقوى عصور الحقبة الفرعونية، وأن العالم الوحيد الذي حظي بجائزتي نوبل كانت ماري كوري وهي امرأة، لم تُخلق المرأة أضعف من الرجل ولا أقل كياناً منه، ولكن مجتمعاتنا التي مارست العنصرية البغيضة هي التي جعلتها تبدو كذلك، إنها نفس مجتمعاتنا التي تلقي باللوم على المرأة في مشكلة التحرش بسبب ملابسها الضيقة والقصيرة مصورةً إياها كالحلوى المكشوفة المباحة للجميع، أقول لهم إذا كانت ملابس المرأة القصيرة قد جعلتها حلوى مكشوفة فارتقوا أنتم ولا تختزلوا أنفسكم في ذبابة!!

في مجتمعات الغرب حيث يرتدون الميني جيب وكل ما هو عورة بنظر مجتمعاتنا، تحتل المرأة منصب المدير التنفيذي لأكبر الشركات ورئيسة وزراء حكومات، بل رئيسة جمهورية أحياناً، بينما نحن في بلادنا ما زلنا نتحدث عن لباس المرأة الشرعي، ومن المسؤول عن الاغتصاب هل هو الرجل أم ملابس المرأة؟ في بلاد الغرب لا يشغلهم فستان سيادة الوزيرة المكشوف الذراعين، بل يشغلهم قدرات المرأة الحقيقية على شغل هذا المنصب.. في بلاد الغرب لا تصنف المرأة براكورات الحلوى المكشوفة والاحتشام الظاهري، ولكنها تصنف بحسب قدراتها المعرفية، وما الذي يمكن أن تقدمه للمجتمع، لست أكتب هذا للإطراء على الغرب، ولكني أكتب هذا لنصارح أنفسنا بالحقيقة المرة، وهي أننا أهدرنا إنسانيتنا على وجه العموم، وحقوق المرأة على وجه الخصوص، عندما قررنا أن نسطح المفاهيم؛ ليصبح الاحتشام مقتصراً على ملابس المرأة، والعفة ترمز إلى جسدها والحياء يشير إلى عدم خوضها خبرات العمل والسباقات السياسية، بسبب هذا التسطيح المهين اختزلنا كل المعاني الراقية الموجودة في تلك المفاهيم مثل احتشام الأخلاق وطهارة الفكر وعفة النظر.

إن قوة المجتمعات لا تكمن في هيمنتها السياسية، ولكنها تكمن في مدى استنارة عقول ساكنيها، هكذا علقت الكاتبة السياسية الشهيرة سيمون دو بوفوار، عندما سُئِلَت عن تصورها عن المجتمع المثالي، إن كل بنود الأمم المتحدة المنصوص عليها في مجال حقوق الإنسان لن تفعل شيئاً طالما أن أصحاب الحقوق أنفسهم متخلون عنها ومُسَلِّمون للتفرقة المجتمعية البغيضة، وممارسة كل ألوان العنف عليهم تحت شعارات دينية أو سياسية، إن المجتمعات لا تطورها الثورات أو التعديلات الوزارية وإنما تثريها العقليات المستنيرة التي تنظر للجميع بحيادية وتعطى الفرص لمن يستحقها عن حق دون النظر لعرقه أو لونه أو جنسه، بهذا تتقدم المجتمعات.. بهذا لن نكون عبيداً.

المصدر: (هافنغتون بوست)