سيلفي والحظ خلفي!

بالعربي: كتبت حنان اليوسفي

فكرة الرضا على الدوام عقدة الإنسان. مذ خلق الله هذه الأرض فلا أحد راض عن حظه، وَيمكن أن تجول الدنيا وَتسِيرْ في أقطارها وتخالط أهلها وتناطقهم ما استطعتَ على ذلك صبرا وسترى، فكل مجتمعٍ يحوي أصنافَ البشر بأسرهم، لكن وجب أن تكون حاذقاً في انتخاب العينات الممثّلة، وأجدْ تفحّصَ القول وتفتيق الكلام هو الطريق إلى خبايا النفوس ومكنوناتها، فإن لكل إنسان معجمه الخاص ولألفاظه دلالات معينة، لأن كل انسان عندما يستخدم اللغة فهو يعيد صياغتها وتركيبها وفقاً لما يبتغيه -هو لا غيره- ويشعر به ويفكر فيه ويحسّه، فمعاني قوله هي ما يعنيه -هو- بها وليست بالضرورة هي مدلولات الكلام في أصل اللغة، ولهذا فالقاموس -أي التقليدي الذي يُباع في المكتبات- قد يكونُ مضللاً أحياناً.

لكل إنسان لغة مستقلة لن نستطيع فهمه إلا بفهمها هي، فروحُهُ لا تنطق إلا بذلك المعجم المخبوء، وهو غير مطبوعٍ على الأوراق ولا محمولٍ بالأكف، وقد قيل: "المرء مخبوء تحت لسانه"، وأقول: لسانه لغته تلك المشارُ إليها، ونحنُ نتعرّفُ على معاجم الآخرين بالتدريج، وبطول الصحبة والمرافقة سنتقنُ فهمَ لغته ونتمكّن من التفاعل "الكامل" معه من خلال إلمامنا بـ"لسانه الخاص"، ومن ثمَّ فهذا طريقنا الوحيد لمعرفة حقيقة انطباعهم عن حياتهم ورؤيتهم لـ"حظوظهم".

إنك لن تصادف قنوعاً مهما أُوتي كثيراً مما يراه الآخرون حظوظاً تتفلّقُ لها الصخور أو نادراً ما ستجد، بل أرى تلك القناعة التي يلغو بها كثيرون إنما هي يأس بعد طول لهثٍ وتطلّب وراءَ حظوظٍ رأوها كبيرة ومغرية، فهم يسترون طمعهم المخذول بـ"راحة اليأس" الذي أحياناً ينعتونه بـ"القناعة" أو "رضى بالمقسوم"، أو حتى ربما تدثروا بالزهد والتجرد إلى الآخرة واستدبار الدنيا بأسرها، ولن يعجزهم مثلاً تلمّس النصوص الزهدية التي يُوارونَ بها يأسَهم الذي إن سبرنا أغوارَهُ لرأيناه يستبطنُ شغفَهم بالحياة وتهالكَهم عليها.

إننا إذا أسقطنا المنهج في أي علم صارت المعطيات وهي هنا النصوص والآثار تدل على كل شيء حتى إنها في النهاية لا تدل على شيء، وهذا داءٌ قد يصيب كل العلوم إن خاض فيها الجهلة والدخلاء، ليس هذا طعناً في الزهد وأهله، لكن ما كل ما يُقال عنه "زهد" هو زهدٌ في الحقيقة.!

إن ما نراه من رضى مصطنع على الوجوه إنما يطفو على بحرٍ هائج من المشاعر الساخطة، إننا كبشرٍ لا يظهر منا سوى الأقل من حقيقتنا، وهذا مما يجب التفطنُ له، كما أنك لا ترى من البحر سوى صفحة مائه الطافية، أما أكثره فهو مما لا تراه بادياً، إنك لن تراه إلا بالغوص فيه، بل حتى عندما تفعل فلن ترتاد سوى ما تستطيع وهو شيءٌ بالغ الضآلة، ثم يعمل القياس العقلي عملَهُ في رأسك وتستدل على مدى أعماق البحر بما رأيتَ منه، وعندما تطلق بصرك في الشواسع الطافية منه ستدرك كم للبحر من أحشاء مهولة.. إن لكل بادٍ عمقٌ، ولكل ظاهرٍ خافٍ، فهما شيئان مختلفان تماماً، وقلما يتطابقان، وبالضبط فإن الإنسان أضخم من البحر، والغائصون فيه أقل ممن غاصوا في البحر وكشفوا الكثير من أسراره.

نحنُ عندما ننظر في حظوظ الآخرين ومكاسبهم فإننا غالباً ما نراها -من غير أن نشعر- من أفق إخفاقاتنا وخساراتنا، وكثيراً ما نستحضر فشلنا عندما نبصر نجاحات الآخرين، وعندما نقارن بيننا وبينهم فنحنُ كثيراً ما نبخس حظوظنا ونستحقرها ونراها هي الأقل، فالآخرون وأشياؤهم وماصنعوا -بالنسبة إلينا- هم كالصورة الكبيرة التي تضج بالألوان والشخوص والأصوات والأشياء، ونحنُ كالمشاهد الذي استفردت به "الصورة الكبيرة" فأوسعته حسرةً وألماً، لأنها أيقظت وعيَهُ ونبّهته إلى "حرمانه الذي لا نظير له..!".

إنه يرى ما سواه كواحدٍ أمام الجميع، كالمشاهد تلقاء الصورة الكبيرة، مع أن أجزاء هذه الصورة -عندما نفككها- سنجدها شخوصاً منفردين مثله تماماً، أي أنهم مشاهدون مأخوذون -هم أيضاً- بـ"الصورة الكبيرة الأخرى" التي لم ندرك أننا -نحن هذه المرة- جزءٌ منها أيضاً، فنحنُ كـ"أشخاص منفردين" ننظر إلى نحن كـ"أشخاص مجتمعين"، وكلٌ منّا ينظرُ إلى ما سواه بوصفه متلحماً بصورة كبيرة فاتنة، لا نستطيع فصلَهُ عنها كـ"جزءٍ" من "كلٍ موهومٍ". بمعنى أن المشاهد السليب أمام الصورة هو كل إنسان مبهور بالصور التي أمامه والتي تتكونُ من أشخاص هم مبهورون بصورٍ كبيرة أخرى، وذاك المشاهد ربما كان جزءاً منها.

الصورة هنا هي تعبيرٌ عن كل ما نتصوره مما يحيط بنا من واقع أو خيال، أشخاص أو أشياء، ولنتأمل في الحديث الشريف الذي يقول: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" وهو متفق عليه، فإن الجميع -المفتون والمفتتن به (الذي هو مفتون بآخر)- مخاطبون بهذا الاقتراح الحكيم الذي سيفضي بنا إلى الاطمئنان، تأمل أنه خطاب للجميع، المشرد المفتون بالموظف، والموظف المفتون بالمسؤول، والمسؤول المفتون بالتاجر، والتاجر المفتون بصاحب السلطة، وربما صاحب السلطة المفتون بالفقير لأنه "خالي البال من الهموم الكبيرة والمؤرّقة"..وهكذا. لأن الإنسان دائماً ما يبحثُ عمّا يفتقد، وهذا المفْتَقَدُ هو "الحظ" الذي تتطلّعُ إليه العيون والرغبات، وبه تُعقد المقارنات بين الشخص وغيره، وبه يكتشفُ -أو ينخدع بالأحرى- كم هو "منقوص الحظوظ" وَ"قليل التوفيق".

إذن ففكرةُ "الحظ" وهمٌ كبير، فالحظوةُ الحقيقية ليست في الأشياء كلها، بل هي في الرضى الذي يشعُ في النفس فيملؤها طمأنينةً، وهو شعور مجرد، فلا رضى تام، إلا في مكان ما ونظرية الرضا في الجنة استبعدها، أما ما سواه فحسراتٌ تعقبها حسرات، وإذا تأمل الإنسان فيها أصابه ما يشبه "الزهد القهري" منها فيرتاح، لا لأنه نال وكسب، بل لأنه علمَ أن المكاسب أوهام، وسراب يحمل البشر على الركض في مناكب الحياة فتعمرُ بهم ثم يزولون ويعقبهم آخرون يخدعهم نفس السراب ليعمروا الأرض مرةً أخرى.. وهكذا، لعلّه "الوهم الحقيقي" الذي به تدور دوّامة الحياة.!

المصدر: (هافنغتون بوست)