غنِّ يا زهر الدّحنون

بالعربي: كتب: عمار أبو  قنديل 

“امسك الكيس واسبقني على التراكتور”

ركضتُ متلهفًا مشرعًا يداي، وزخات السعادة تملأ روحي، وعيناي المغرورقتين بدموع الفرح تُغازلان مجرى الريح، بالكاد استطعت اعتلاء الدرجة الأولى، هي مرتفعة وأنا صغير، وبعد محاولاتٍ حثيثة وعنيدة نجحتُ بالصعود، جلستُ على كرسيّ الصغير إلى جانب كرسي القيادة الجلدي، أحتضنُ الكيس المملوء بخبز الطابون والزيتون الأسود وأجلسُ منتظرًا.

بين الفينة والأُخرى أقتنص الفرصة لأفتح الكيس مشتمًّا مزيجَ الفيجن الذي يختلط برائحة الطابون، وتتسلل إليه أغاني جدتي وخالاتي والجارات المتحلقّات حول الطابون، المنحوتةُ في لاوعيي، حيث كانوا يرددون، دومًا: “غنِّ يا زهر الدحنون، وارقص يا خبز الطابون، طاح الشومر والزعتر وودعنا سقعة كانون”.

في هنيهة استراق شمّةٍ أخرى، أرفعُ رأسي وإذ به قادمًا بمشيته المميزة، يختالُ مشبكًا يديه وراء ظهره، وتلك مسبحة تختلط بين أصابعه، وذاك قمبازٌ شامي، شماغ ناصع البياض وعقالٌ أسود يتوج رأسه، يعتلي التراكتور الإنجليزي المكشوف، الذي إشتراه عام ٦٣، يوم ولدت أمي، وأسماها “ابتهاج”، فألَ خيرٍ، كيف لا وهو عام الفرح، حظي فيه بمولودهِ الأول واقتنى تراكتورًا ليحرث أرضه.

“الأرض عرض الفلاح وشرفه” هذا ما ردّدهُ جدّي، أبو زياد.

تحركنا والسعادة تملأُ قلبي، التزم الصمت طوال الطريق، يمسك المِقود بقوة والهواء يلاطم وجوهنا، لحظات ساحرة لا يمكن وصفها، أنظرُ إليه بإعجاب، إلى وجهه الممتلئ بالتجاعيد، أو بالأحرى، إلى فسيفساء التجاعيد التي تكوّن وجهه، كلُ تجعيدة تروي حكاية؛ خرجنا من حارات البلدة، عرّابة، الضيقة المكتظة بالبيوت، ومررنا في جنبات أزقتها العتيقة، حيثُ تتسلل إلى أنفك روائحُ العكوبِّ والعلت والخبيزة والفريكة، وترافقك طوالَ الطريق حتى تَصِلَ سفوحَ جبال “المُقلس” المُطلّة على سهل البطوف، لوحات جميلة متعددة الألوان، كل لون يعني نوع زرعٍ آخر، نقترب شيئًا فشيئًاـ  فيتضح نوع الزرع أكثر فأكثر، حتى إذا وصلنا أرض جدي، وجدناها مزروعة بالبصل والثوم والبندورة والبامية والباذنجان والكوسا.

كلام جدي كان قليلًا، لم أفهم أمارات وجهه، أهو غاضب؟ أهو مسرور؟ أهو حزين؟

“قوم نحوش شوية زرع ونتغدى”

جمعنا البامية والبندورة والثوم وبدأ جدّي بالتحضير، لم ينبس ببنت شفة، يضع زيت الزيتون في صاجه الأسود وفوقه البامية فالثوم، يضيف البندورة وينتظر، وانتظر معه، لا أفهم لما جئنا هنا أصلًا…

“سيدي، جينا لهون عشان نوكل بامية يعني؟ كان بنفع نعملها بالبيت”!

نظر إليّ باستغراب وغضب في آن، وقال بصوتٍ عالٍ لم أعهده:

“جينا عشان الأرض، جينا عشان نوكل من الأرض ما جينا نوكل”، وأكمل بغضبٍ أشدّ: “هاي الأرض حميناها بدمنا وروحنا وعهد علينا نحافظ عليها، لازم نزرعها ونسقيها ونرعاها ونوكل منها ونورّثِها ونخلط عرقنا بترابها ولازم نحضنها ونحميها!”

“من مين سيدي ومن بده يسرقها وليش؟”

تنهيده طويلة ولوعة مريرة ودمعة انزلقت من عينه، صمتٌ طويل وحزنٌ خيّمَ  في الأرجاء، كأن حجرًا جثم على صدره وصخرة ثقيلة حالت بينه وبين الكلام، لحظاتُ انتظار وتوتر، قدماه ترتجفان، ينظر إلى الأرض ثم إلى السماء، حتى انفجر : “يا سيدي، أرض الوطن سُقيت بالدم والدموع والآلام أكثر مما سُقيت بماء المطر”.

وأكملْ…

كانت صرخة الوطن من عرابة، ديرحنا وسخنين، مثلث الأرض، وانتشرت في كل أرجاء فلسطين: في الجليل والمثلث والساحل والنقب الحصين، وصلت حتى رفح وطولكرم وجنين. صرخة وحّد صداها الجميع، إذ ترفّعوا عن الاختلافات، متجاوزينَ الحدود الجغرافية والسياسية الوهميّة، التي بناها الاحتلال، كان الهم واحد والألم واحد، يربطان ما فتّتته وشرذمته ماكينة الاستعمار، وكان ردًا مدويًا على كل من راهن على حياة القضية الأم، القضية الأساس “فلسطين”.

في عام 1976 يا جدّي، أقدمت حكومة الاحتلال على مصادرة 21 ألفَ دونمٍ من أراضي الجليل، تحت مسمّى “تطوير الجليل”، وهو بالحقيقة مشروع يهدف إلى “تهويد الجليل” وعلى رأسها “وثيقة كينغ” المشؤومة، استمرارًا لنهج سرقة الأرض والتاريخ والحاضر، التي استمرت منذ عام الـنكبة، مع قدوم العصابات الصهيونية إلى البلاد.

حسبوا أن الفلسطينيين ضعفاء ومشتتين، وأنهم تنازلوا عن الأرض. فلسطين كانت دومًا أرض الشهداء، حبلى بالوطنيين والمضحيين.

في السادس من آذار دعت “اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي” إلى الإضراب العام في الثلاثين من آذار وتحويل هذا اليوم إلى يوم للأرض وللتصدي لقرارات المصادرة التي تهدد وجود ومستقبل الجماهير العربية في وطنها الأم.

أعلنت الحكومة يومها عن عدم قانونيّة الإضراب والمظاهرات، وهددت بأنها ستواجه المتظاهرين بالقوة وإطلاق النار، حاولت السلطة زرع الخوف في نفوس الناس قبيل الـ30 من آذار، لتمنع حدوث الإضراب، لكن الحدث والغضب كان أقوى.

فلقَدْ اختمر الغضب والشُّعور بالظُّلم في نُفُوس النَّاس والقادة الوطنين.

ومن قلب شفا عمرو، انطلقت صرخة   “الشعب قرّر الإضراب”!

في مساء التاسع والعشرين من آذار، بدأت المواجهات في ديرحنا ومن ثم امتدّت إلى عرّابة، حيث داهمت الشرطة القرية، وبدأت باستفزاز الناس وضربهم، كانت الفؤوس والمناجل والعصي والزجاجات الحارقة سلاحَ الناس… سقط يومَها الشاب خير أحمد ياسين،أول شهداء يوم الأرض.

في اليوم التالي، الثلاثين من آذار، أصدرت الشرطة قرارًا يمنع التجول، وفرضت طوقًا من الجيش والشرطة حول البلدات، وبدأت تهديدَ الأهالي، لكن التهديدات لم تثنِ الفلسطينين عن التعبير عن غضبهم وسخطهم، فعمّ الغضب كل أرجاء البلاد.

تفاجئت السلطة من حجم الإضراب وكم التجاوب معه، انتفض الناس، انتفض الشعب، الرجال والنساء جنبًا إلى جنب، العمال والفلاحون والمعلمون والأطباء والمهندسين، الطلاب غادروا الصفوف أفواجًا والأهالي خرجوا من البيوت جماعات وفرادى، من شمالي البلاد حتى الجنوب، أنهر بشرية غاضبة تدفقت وملأت الشوارع، الكل “وضع روحه على كفه”، مظاهرات تضامنية في الضفة وقطاع غزة ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان خرجت في وقتٍ واحد، رياح ثوريّة عصفت بالبلاد وهبة شعبية ملّت الظلم والاستبداد، خرجت من رحم المعاناة والقهر لتستردَّ حقها الذي سُلِب.

كان الرد عسكريًا شديدًا، القناصة اعتلت البنايات وطوقت المجنزرات والدبابات وقوات معززة من الجيش الإسرائيلي مداخلَ البلدات بعرابة وديرحنا وسخنبن وقرية السواعد، وأعادت مشاهد الاحتلال إلى أذهان الناس.

في سخنين ارتقى ثلاثة شهداء، الشهيدة خديجة شواهنة، والشهيد رجا أبو ريّا والشهيد خضر خلايلة. وفي كفركنا، استفزّت الشرطة الناس وهاجمتهم وارتقى هناك الشاب محسن طه شهيدًا، وفي الطيبة، ارتقى الشاب رأفت علي زهدي من بلدة نور الشمس، جابت المظاهرات كل البلاد: طمرة، باقة الغربية، كسرى، كفرقاسم، قلنسوة، الرامة، نحف ومجد الكروم.

ستّة شهداء جادوا بدمائهم ورووا تراب فلسطين، مئات الجرحى ومئات المعتقلين، مظاهر الخراب والدمار التي خلفتها آليات وأوباش الاحتلال، جو حزن وموت وعزة وكرامة تدفقت في الأجواء، مشاهد البطولة والتضحية والفداء بكل ما تجسد باتصال وثيق بكرامة وعزة الإنسان الفلسطيني، إنه يوم الأرض، يومَ توحد الفلسطينيين بأحرار الأرض, كان يوم الأرض أول هبة جماعية للجماهير العربية في فلسطين، على أثر حملات التعبئة خرجت الجماهير إلى الشوارع، قادت الجماهير نفسها إلى الصدام مع قوات الشرطة والجيش، كانت نقطة مفصلية في تشكيل الوعي أمام الخطر الداهم والمستمر الموجه من قبل مؤسسة الاحتلال. في هذا اليوم، انتصر الدم على الرصاص، وانتصر صاحب الحق على مغتصب الأرض، وحتمًا، سينتصر الحق على الباطل مهما طال الزمان أو قصر، الأرض لنا ونحن أصحاب الحق فالإنسان الفلسطيني هو الأرض والأرض هي الإنسان الفلسطيني، وسنبقى على العهد مهما جار علينا الزمان، وسنصمد ونردد “إننا باقون ما بقي الزعتر والزيتون”.

“فهمت يا سيدي؟”

” هاي الأرض أعطتنا وآوتنا وكبّرتنا، وفيها تعب أجدادنا ودم الشهداء روى ترابها، بتسوى نوكل منها ونقعد فيها؟”

لا أدري إن كنتُ قد استوعبت يومها كل الكلام، فجدي كان حزينًا ومفتخرًا في ذات الوقت، والتفاصيل كانت كثيرة، لم أفهم، حينَها، كل الحديث وعلاقة “البامية” والأرض وحزن جدي في مشاهد الدم والقتل والغضب الممزوجة بعطر الكرامة والعنفوان والإيمان، لكن اليوم في ذكرى الـ40 ليوم الأرض الخالد، أعي تمامًا أن الحديثَ انغرس من يومها في ثنايا عقلي وتجذر في ذاكرتي وزرع في نفسي حب الأرض والوطن، وأن هذا اليوم ليس مجرد ذكرى وطنية احتفالية، إنما هو مأثرة كفاحية خالدة ومنعطف سياسي فارق أمام سياسات الاحتلال الاقتلاعية المستمرة حتى اليوم، هو فرصة للتصدي موحدين لشبح مصادرة الأراضي وهدم البيوت العربية، هو مساحة لكسر حاجز الخوف ورفع سقف التحدي في مواجهة السلطة

هذه أرضنا وهذا وطننا ولن نرضى بسواه يحمل في طياته كل ذكريات ملاحم الأرض وكل معاني الصمود والشموخ أمام كل المخططات الاستعماريّة الآنيّة والمستقبلية، إنه يوم نضالي خالص، علينا الحفاظ عليه وفاءً لدماء الشهداء والأسرى والجرحى، علينا أن نعززه ونقويه ونخرجه من شكله الخطابي المَرَضيّ الذي اعتراه، وليكن رافعة وحدوية في التصدي لكل المخططات السلطوية.

فالأرض لنا، ترابها وشجرها قمحي اللون كملامحنا، فالأرضُ لنا، وعاش يوم الأرض الخالد والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار.