لا مكان لكم في أوروبا

بالعربي- كتب عادل العايد:

"شاوشيسكو، لا مكان لك في أوروبا"، كانت عبارة للافتة كتبها شخص مجهول الهوية، وذلك في مظاهرات جرت في العاصمة التشيكية براغ عام 1989، تضامنًا مع شعب رومانيا، الذي قرر مواجهة دكتاتورية شاوشيسكو. من المؤكد أن من كتب هذه العبارة، كان يحمل الكثير من الغضب تجاه الدكتاتور الروماني، ولكن ما يصدم غير الأوروبي، هو بالتحديد عبارة "لا مكان لك في أوروبا"، والذي يجعلك تفكر بأنه ربما أراد إكمالها، في قارة أخرى غير أوروبا، وعلى رأس الشعوب غير الأوروبية، بإمكانك أن تحيا أيها الدكتاتور، بما ينطوي على احتقار مبطن للشعوب وتمجيد للدكتاتور، على أن يمارس هواية الغطرسة خارج أوروبا.

لا يزال العالم الحر غير قادر على اجتراح تقدم في الأخلاقيات والمبادئ يوازي تقدمه المادي

لقد وصل العالم بقيادة العالم الغربي لمرحلة متقدمة من التطور العلمي والتقني، تطور يجعل من الكرة الأرضية قرية صغيرة بوسائل الاتصال، ويحيلها خرابًا بقنابله الذرية والنووية، ولا يزال هذا العالم بزعامة العالم الحر، غير قادر على اجتراح تقدم في الأخلاقيات والمبادئ، يوازي تقدمه المادي.

يتحدث معي صديقي السوري اللاجئ المقيم في باريس، عن أنه يشعر أن موجة النزوح باتجاه أوروبا لن تتوقف أبدًا، العالم أصبح شبيهًا بأفلام الخيال العلمي، التي تدور حبكتها السينمائية حول كارثة جفاف كبيرة تصيب كوكب الأرض، ولا تبقى إلا رقعة صغيرة صالحة للحياة خارج جحيمه، وتكون بمثابة الجنة للذين يلتحقون بها، أو بالأحرى الذين يستطيعون الوصول إليها، هذه الرقعة الصغيرة هي اليوم أوروبا، هذه البقعة الوحيدة الصالحة للمعيشة بنظر المهاجرين من أبناء الشرق الأوسط، الذين لا يحصل في بلادهم إلا المزيد من الدماء، والمزيد من الدكتاتورية، والكثير من العقد الطائفية والقومية والأزمات التاريخية، التي لا تنفك تخرب حياتهم وتدمر أحلامهم ومستقبلهم.

إضافة إلى ذلك صعوبة الانتقال إلى دولة العدالة والقانون التي وعد بها الربيع العربي في بداياته، وحدها أوروبا قادرة على إنتاج مبادئ العدالة والديمقراطية والحرية والمحافظة عليها، كل ذلك يدور في خلد معظم الذين يقررون ركوب أمواج البحر للوصول إلى أعتاب هذه القارة،-التي لا تزال قابضة على المبادئ الإنسانية، أوروبا التي تحترم البشر، ولكنها أيضًا هي نفسها التي لا تفعل الكثير لإيقاف ألعاب الدكتاتور الدموية في سوريا، بما يفرضه التزامها بالمبادئ التي جعلتها تتفوق أخلاقيًا خلال القرنين الحاضر والماضي، وكأن هذه القيم خاصة بالغرب دون أبناء ثقافات وقارات العالم الأخرى.

والأكثر إثارة للرعب هو الانتكاسات التي تصيب المنظومة الأخلاقية بين فينة وأخرى، داخل المعسكر الديمقراطي الغربي إن جاز لنا التعبير، كأن يدعو مرشح للرئاسة الأمريكية إلى طرد المسلمين من أمريكا، أو إبادة عائلات الإرهابيين وحواضنهم الشعبية، ويلقى هذا الكلام آذانًا صاغية من جمهور لا بأس به من الأمريكيين، الذين يعبرون بكل صراحة عن كراهيتهم لأبناء ثقافة معينة، وأنهم يرغبون برميهم خارج بلادهم.

الإعلام والتجارة من أكثر القوى الناعمة تأثيرًا في العالم، ولكن القوى الناعمة صدّرت أفكارًا غير ناعمة.

الأمر الأكثر غرابة هو عدم مجيء المرشح الجمهوري دونالد ترامب من مؤسسة عسكرية أو أمنية، بل من مجال الإعلام والأعمال التجارية، وهما من أكثر القوى الناعمة تأثيرًا في العالم في الوقت الحالي، ولكن هذه القوى الناعمة صدّرت أفكارًا غير ناعمة، في بلاد تعتبر نفسها من المكونات الأساسية للعالم الحر، من جانب آخر نرى أن "داعش" نفسها تستغل ببراعة هذه القوى الناعمة، وبخاصة الإعلام على شبكات التواصل الاجتماعي للترويج لأفكارها وممارساتها الدموية، وكأن الأمر يتم على مبدأ المثل القائل "الوردة تخلف شوكة"!

أما قبل دونالد ترامب، فقد نظمت حركة "بيغيدا"، مظاهرات لعشرات الآلاف من الألمان، يجمعهم الكره للغرباء عن بلادهم، وبالذات القادمين من الشرق الأوسط، وكأن لسان حال هؤلاء الألمان يقول: عودوا إلى الضفة الأخرى من المتوسط حيث تمارس دكتاتورياتكم ألعابها الدامية، وحيث يتقرب المتشددون منكم إلى الله بقطع الرؤوس، لا تلوثوا قيمنا بما تحملوه من عادات وأفكار من تلك البقعة الجغرافية من العالم الثالث، يبدو الأمر وكأنه دفاع عن القيم والمبادئ الأخلاقية لأوروبا، ولكنه في الوقت نفسه نسف لكل هذه القيم.

رغم كل الإدانات الغربية لتصريحات دونالد ترامب العنصرية، ورغم التنديدات الأوروبية بخطاب الكراهية لحركة "بيغيدا"، إلا أن ذلك لا يقلل من القلق من مغبة اضمحلال التأييد للمبادئ الإنسانية داخل المعسكر الغربي، وارتفاع رصيد الأصوات التي تتنكر لهذه المبادئ وتضرب بها عرض الحائط.

 

المصدر: (صوت ultra)