مؤسسة كارهي فلسطين

بالعربي- كتب محمد عزت:

في الواقع لم تكشف انتفاضة اليأس الفلسطينية عن شيء بقدر ما فتحت عيوننا على حقيقة نحياها يوميًا، في دول يأس ما بعد الانتفاضات العربية الفاشلة، حقيقة الخذلان كل يوم منذ مسنا الحلم مرة، مخذولون نحن ليس فقط في الأحلام، ولا في المستقبل الذي تعلمنا بقسوة ألا نأمل السعادة فيه، ولا في من فارقونا في الرحلة والطريق وتركونا وحدنا في الظلام الدامس، وإنما حتى في من تجاورنا معهم في ميادين المحروسة طيلة الأربع سنوات الآنفة وحملناهم على الأعناق واقتسمنا معهم فرص الحب والحياة والموت.

في مصر، قرر "الثوار بالقطعة" أن يجلسوا على أعلى نقطة في برج المثالية، ليوجهوا أحكامًا مصطنعة إلى المقاومة الفلسطينية.

في فلسطين تقلصت الأحلام وصارت لا ترى بالعين المجردة، فالقيادة الفلسطينية التي كانت تتحدث منذ خمسين عامًا عن حلم إزالة الصهيونية، صارت أقصى أمانيها اليوم أن تهدد المحتل الصهيوني بين الحين والآخر بوقف التعاون الأمني معه! بنظرة إلى التاريخ غير البعيد ستكتشف كم تكون خيبات الأمل قاسية ومضحكة للغاية، وقد خرجت السكاكين المشهرة في شوارعنا الفلسطينية لتقاتل تلك القسوة الكوميدية ثقيلة الظل على قلب الضحايا.

وهنا في مصر، كنا على موعد مع خيبة أمل جديدة نحن أيضًا، فقد صفعتنا الحياة مرة جديدة كعادتها واكتشفنا الليبرالية العميقة المتجذرة فيمن ادعوا الراديكالية ذات مرة، لقد اكتشفنا أن من كانوا يحيطون بنا في ميادين المحروسة هم مجموعة من البرجوازيين الصغار، وأنهم لا يتقاسمون معنا أية أحلام تذكر.

هم فقط تقاطعت لغتهم مع لغتنا في لحظة، هم لديهم أحلامهم وحيواتهم اليمينية الخاصة، وقد نجحوا في تحويل خانة العمل في بطاقاتهم إلى "متمرد بالقطعة"، يجيد صياغة الخطب والمواعظ والتحليلات على مقياس المنطق الأرسطي، مجرد اتباع حيل لغوية ذكية مثل عدم السماح بشيء في النتيجة أكثر مما يكون في المقدمتين، وسوف يكون حديثك عندئذ سليمًا وعقلانيًا ورائجًا جدًا، لكن على شرط أن يقف الكلام عند حدود الصحة اللغوية التي تتكأ في منطقها على ما عرفت به الإمبريالية العالمية حقوق الإنسان، أما أن تحاول إدراك الواقع والحسرة والمشاعر المصاحبة لكل ما يحدث لنا وأن تسمع أصوات أبواب الحياة وهي توصد في وجوهنا كل يوم، فذلك سيجعل من حديثك حديثًا "داعشيًا" لا عقلانيًا ولا إنسانيًا.

بعد كل النصائح والتعليقات والتعقيبات والتحليلات التي أسداها لنا هؤلاء البرجوازيين الصغار الذين يعرفون أنفسهم بأنهم منا طيلة فترة توهج الانتفاضة المصرية، وبعد أن ادعوا العدمية والكلبية والأبيقورية بعد فشلها، قرروا أن يصدروا نصائحهم الألمعية إلى المنتفضين في حارات اليأس بفلسطين وقرروا أن يجلسوا على أعلى نقطة في برج المثالية، ليوجهوا أحكامًا أخلاقوية ومصطنعة للمقاومة الفلسطينية، ويتساءلوا أسئلة مستفزة عن "العنف" وعن بشاعة الطعن ودموية الفلسطينيين الذين تحولوا إلى فاشيين وصهاينة يقتلون المدنيين.

وجد البرجوازيون الصغار (الثوار بالقطعة) أن الطعن قد أصابهم بالاضطراب وشكّل لهم زلزالًا عنيفًا، ليتسائلوا عن العنف وعن الإنسانية وعن الرحمة البروتستانتية. باختصار، لقد أثار "العنف الفلسطيني" حفيظة التنين الأخلاقي بداخلهم.

لا يوجد مخرج من الرأسمالية إلا عندما يلتحم بُعدي المقاومة: كفاح الطبقة الكادحة العامة، وكفاح الشعوب المستلبة.

نحن لا نحتاج هنا أن نذكر هؤلاء بأن وجود هذا الكيان الصهيوني كان عقبة رئيسية أمام تضامن الطبقة الكادحة العامة العربية دونما طائفية دينية، وأن وجوده كان سبب رئيسًا في وجود الإسلاميين الفاشيين على هذا النحو المتضخم الذي يمثل الخوف الحياتي الأكبر عند هؤلاء اليساريين "الليبراليين جدًا"، ولا نحتاج أن نذكرهم بأنه لا يوجد مخرج من الرأسمالية إلا عندما يلتحم بُعدي المقاومة: كفاح الطبقة الكادحة العامة، وكفاح الشعوب المستلبة، فكلاهما يحمل في بواطنه صرخة ضد نفس التحدي، ولا نحتاج أن نذكرهم بأنك إذا لم تستطع أن توجد بديلًا لليائس والمعدم والمضطهد فاتركه يبدع تكتيكاته الخاصة، فهو ليس بحاجة إلى حسك الأخلاقوي المصطنع الذي تكسب به دخلًا ثابتًا وشهرة ومتابعين بالآلاف على صفحاتك بمواقع التواصل الاجتماعي وانخراطًا في شلة الحقوقيين الثوار الذين ينعتون أنفسهم باليسارية والماركسية القحة مقابلًا لمهنتك الكوميدية كـ"ثائر بالقطعة".

نحن لا نحتاج التذكير بأن فلسطين هي قلب أوجاعنا الذي لا يعرفون عنها شيئًا، نحن نحتاج أن نذكر أنفسنا دائمًا بأن هؤلاء ليسوا منا، يستعملون لغتنا فقط ليعبروا عن أحلامهم الخاصة جدًا، علينا أن نقف مدهوشين لمرة ونغني ما غناه عادل إمام في مسرحيته الشهيرة "الواد سيد الشغال": "حتى انت يا زينهم يا سلحدار تطلع منهم وأطلع أنا حمار"، ثم نكتشف اكتشافًا صرخ التاريخ منا لأننا لا نود فهمه وهو أننا لسنا من هؤلاء اليساريين، "الليبراليين جدًا"، وأن مصالحنا ومصالحهم لن تتلاقى في أي طريق حتى النهاية.

(كاتب مصري)