رجل الأشجار الفلسطيني ينام الليلة وحيداً

بالعربي-كتب حسين ناصر الدين:

إنّ ما أذكره لكم الآن، أيّها الأحبّة، ليس سوى الصدى الخافت لرجل الأشجار، فرجل الأشجار هذا هو أكثر ممّا ينبغي، وأقل ممّا نصف، إذ تفصلنا عنه، نحن الذين نريد أن نصفه، الهضاب البعيدة والطرقات الكثيرة التي لن نعرف بأي حال أن نسلكها، إذا أردنا الوصول إليه منها كي نراه.

لن نعرف إذاً، إن كانت الأشجار تورق في يديه، أم أنّها أشياء أخرى تلمع في راحة كفه الصغيرة، وفي عيونه المليئة بالورد والعناقيد. رأينا رجل العناقيد كلّما مشى، يدسّ يده إلى جيب قميصه، إلى شيء ما هناك، إلى جهة اليسار قليلاً ربما، يقول بعض الناظرين منا إنّ للرجل الوردي هناك، في مكان القلب، ثمرة صغيرة، ويقول الآخرون إنّ له في صدره عينين تدمعان كلّما وطئت رجلاه الأرض. إنّا لا نعلم شيئاً، لكنّنا، سمعناه من مكانه البعيد في الأزقّة يغنّي، وهو مطمئن إلى هدوئه الذي كان فيه: "إنني داخل في فضاء الحقول البعيدة، والهواء الذي يتسلل تحت الثياب، ينحني خائفاً أن يلامس قلبي".

***

أنا الرجل الذي يتكلّمون عنه، يدعونني هنا رجل الأشجار، أريد أن أخبركم أشياء كثيرة، وأن أروي لكم بعض الحكايات عني، قبل أن تطالني الرصاصات التي ستأتي إلى رأسي وصدري بعد ثوانٍ قليلة، لكنّني، إذ اعرف أنّني سأموت هنا، فلن أهدر الكلمات التي سأقولها لكم، بأن اصف لكم وجه أمّي، كما أراه الآن ماثلاً أمامي، أو أن أخبركم عن الأمور التي أقضي بها ساعات النهار، سأقول فقط أشياء أحس بأنّها تكفيكم كي تعرفوني، أشياء تمكن الواحد منكم إذا ما التقاني يوماً أن يلمس قلبي بيديه.

سأحكي لكم إذاً، قصة الأشجار التي ظننت أنّني سأموت بينها يوماً، بدل أن أموت هنا. الصغيرة منها، تلك التي تتسع في راحة اليد، والكبيرة أيضاً، تلك التي أردت دائماً، حين أنظر إليها، أن أهزّها من أعماقها، أو أن أراها مقلوبة على رؤوسها تنظر إليّ.

الأشجار التي في الحقول أيضاً، الحقول الكبيرة التي حين تنظرون من أولها إلى الأشجار البعيدة، لا ترون سوى ظلال لا يعرف الواحد منكم إذا ما كانت لولد أو بيت صغير أو لرجل جالس هناك. أريد أن أقول لكم كل شيء عنها، وحينها ستعرفونني، لكنّني أخشى الآن بأنني لن أحظى بالوقت الكافي لذلك، لكم أن تعرفوا الحكاية ممّا سيخبره الناس بعد قليل حين لا أكون بينكم.

***

الساعة الآن الواحدة بعد الظهر، نقسم نحن الواقفين بعيداً، في المكان الذي ننظر منه إلى الرجل بأن شيئاً فظيعاً سيحدث، واحداً من تلك الأشياء التي لا رجعة منها. كانت لحظة من تلك التي تجعل الهواء يبرد، هل تشعرون بذلك؟ السماء تعتم قليلاً، الكلاب تعوي، وفي اللحظات التالية يسود صمت مطبق، هناك أشياء تحصل، كأن يداً ما أمسكت الأبنية حول الزقاق مانعة إياها من أن تتحرك، هل تستطيعون تخيّل ذلك؟ فليتخيل الواحد منكم أنّه يضع يده على حافة إناء فيه ماء، مانعاً إياها من أن تندلق على الأرض، هكذا حصل، ونحن وقفنا ننظر، إلى أن حلّ الظلام، وغطت اليد الكبيرة التي أحدثكم عنها الحيّ بالكامل مانعة إيانا من أن نعرف ما الذي حصل بعد ذلك. قال البعض منّا، من الذين ادعوا بأنهم رأوا ما حصل هناك، إنّ الرجل تدلّى مثل شجرة صبّار مثقوبة، وإنّ الناس اقتربوا لكي يلملموا الثمار التي سقطت من تحت قميصه. وقال آخرون إن الرجل سُجّي هناك وقد ابتلت ثيابه بسائل أحمر غريب، قيل إنّ سببه العيون التي في صدره، إنّا لا نعلم شيئاً، لم نرَ، من خلف الهضاب سوى رجل، بحجم شجرة صغيرة، ينام.