بداية جديدة

بالعربي_كتبت ابتهال الخطيب :  شاهدت قبل أيام فيلم «The Martian» من إخراج رايدلي سكوت وبطولة مات ديمون، وهو فيلم يأتي في سلسلة أفلام عن الفضاء والتي تتجه لأخذ منحى علمي جاد يضفي على العمل شيء من الواقعية المبهرة التي تدفع بالمشاهد للتفكر في المقبل من مستقبل البشرية، ليس فقط من الجانب العلمي والتطوري ولكن من الجانب الفلسفي كذلك. يحكي فيلم «The Martian» عن مستقبل ليس بالبعيد وعن خطوة فضائية تطورية ليست بالمستحيلة، في الواقع هي قريبة ومتوقعة لربما خلال المئة سنة المقبلة. فخلال رحلة استكشافية بشرية إلى المريخ، تأتي عاصفة رهيبة جداً يقضي خلالها أحد رواد الرحلة، أو هذا ما يعتقده الفريق مغادراً سطح الكوكب الأحمر. بعد مرور عدة أشهر تكتشف «ناسا» الوجود الحي لرائد الفضاء «مارك» على أرض المريخ وتبدأ رحلة مهيبة من التحديات العلمية والأخلاقية ومن الدفع الأقصى للإرادة البشرية في محاولة الابقاء على حياة هذا الرائد لحين استعادته والعودة به لكوكب الأرض.

ولعت أنا بالبداية الجديدة على الكوكب الجديد، وبالطريقة التي يتحدث عنها بطل الفيلم مفلسفاً إياها ومسقطها على التاريخ البشري. فقد حاول البطل أن يزرع البطاطس في محمية داخلية مستخدماً التراب المريخي مخلوطاً بغوط رواد الفضاء المخزن عندهم في المحطة المريخية، وما أن ظهرت الوريقة الخضراء الأولى والتي حياها البطل قائلاً «Hi there» حتى بدأ هذا البطل يفكر في حقيقة أن استعمار وتأهيل أرض ما يبدأ بزراعتها، ما يجعل من زارعيها أول مؤسسين لحضارتها، مما يجعل منه المستعمر الأول لأرض المريخ. فلسف البطل كذلك نظرية القرصنة الأرضية، معلناً نفسه قرصان المريخ الأول، طالباً من محطة «ناسا» مخاطبته بالكابتن القرصان، في مشاهد قصيرة مضحكة ملهمة، ليس فقط في إشارتها لبدايات التكوينات الاجتماعية الانسانية، ولكن كذلك في إشارتها لما قد تؤدي به الوحدة، في هذه الحالة على كوكب كامل، من تأثيرات على العقل البشري.
في معالجة لجزئية البشر الأول على المريخ وفي مشهد مؤثر، نرى البطل جائباً نواحي المريخ الأحمر، مفلسفاً روعة الفكرة، أن في كل مرة يغادر مركبته الصغيرة واطئاً أرض ما، صاعداً تلة ما، جائباً أتربة ما، هو، في الواقع، الأول في فعل ذلك. هو دائماً أول بشر يخطو على هذه البقعة أو يتسلق هذا المرتفع، هو أول بشر يستعمر كوكباً بأكمله، كوكب كامل لا بشر عليه غيره. أرهبتني هذه الفكرة وأنا أتفكر في ضآلة الوجود البشري، في حداثته الكونية، وفي الوقت ذاته في سذاجة اعتقاد هذا الجنس المسكين بعظمة وجوده وبمركزيته للكون. فاعتقاد البعض أن البشر خلقوا تحديداً ليعمروا الكون، وأن الخالق قد ركز عليهم كل جهوده، حتى أن الهدف والمغزى والمرمى ما هو إلا هدايتهم للوجود الإلهي فقط لا غير، أصبح اعتقاد على درجة من الكوميدية والطفولية لا يمكن التجاوب معهما، بأي حال، خصوصاً في ظل الاستكشافات الفضائية الحديثة والتي تقول إننا لا نوازي بأرضنا التي نتقاتل عليها ليل نهار ولا حتى حبة رمل ضئيلة في هذا الكون الشاسع اللامتناهي.
لم يثير قلبي فيلم أكثر من «The Martian» سوى لربما «Interstellar» والذي عرض العام الماضي. تدور أحداث هذا الفيلم حول فريق فضائي يسافر عبر ثقب أسود باحثاً عن فرصة أفضل للبقاء للجنس البشري. قصة الفيلم طويلة ومعقدة بتفاصيل علمية أكثر من مبهرة، الا أن تلاعب الفيلم في مسألة البعد الزمني هو أكثر جوانب الفيلم إبهاراً. يظهر الفريق الفضائي في أحد المشاهد منقسماً بين أحدهم الذي يبقى على المركبة الفضائية واثنين أو ثلاثة منهم يغادرونها إلى سطح كوكب ما. يعلم الرواد أن الفسحة الزمنية المتاحة لهم لإنجاز مهمتهم قصيرة جداً، حيث أن كل ساعة بحسبتهم الأرضية هي سبع سنوات كاملة على أرض ذلك الكوكب، لذا، لم يكن لديهم سوى دقائق لإنجاز هذه المهمة، الا أن العوائق تؤخرهم لما يزيد قليلاً عن الثلاث ساعات، ليعودوا لمركبتهم، فيجدوا زميلهم وقد شاخ أكثر من عشرين سنة وهو ينتظرهم، في حين أن أياً منهم لم يتقدم به الزمن سوى الثلاث ساعات تلك. يربط الفيلم كذلك بين الأبعاد الأرضية وبعد رابع كوني، ويبين إمكانية تداخلهم وانعكاس هذا التداخل على البعدين الزماني والمكاني، وهي نقطة فهمت أقل القليل منها، إلا أنها لم تقل إبهاراً عن فكرة تغير البعد الزمني ونسبيته. أبقى وأزيد شعوراً بضآلة جنسي البشري وبعظمة وجبروت هذا الكون، وبحقيقة أن لا مقاوم لعدميتنا في شساعته سوى إنسانيتنا المؤقتة والعظيمة.
كلا الفيلمين يقومان على حقائق علمية قريبة جداً من حقائق العصر، كلاهما يطرح أسئلة فلسفية وأخلاقية ملحة، لربما يستوجب علينا البحث عن أجوبة لها من الآن. كلاهما يستجوب قيمة الحياة الإنسانية، حتى المفردة منها، إنقاذ بشرية كاملة، استعادة إنسان واحد، القيمة واحدة والمبدأ واحد. الفيلمان يستحقان المتابعة لقيمتهما العلمية ولنحوهما الإنساني ولدفعهما بفكرة تحرير الإرادة والعقل الإنسانيين، والأكثر تأثيراً من كل ذلك بالنسبة لي، لإيحائهما بفكرة أو بوعد أو بأمل… ببداية جديدة.