في فلسطين .. مواجهات وبيتزا

بالعربي-كتبت رحمة حجة : 

موجةٌ من صور المواجهات والفيديوهات والمنشورات الناقدة أو المُثنية أو الراثية أو المتهكمة تتتابع في الصفحة الرئيسية أو ما يسمى الـ"Home" لدي عبر موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي، لكن شيئًا لافتًا بين الأمس واليوم، يجرّ بَصري، هو مشهد شبّان في مواجهات مع قوات الاحتلال، قرب مستوطنة "بيت إيل" شمال رام الله (وسط الضفة المحتلة)، يبدو أنهم في استراحة غداء، إذ يتناولون وجبات من "البيتزا والأرز والدجاج" وغيرها من المغلّف بــ"القصدير"..

أتمعّن في الصور، فأجد مصورًا يحاول التقاط صورة لشاب يتناول قطعة "بيتزا"، كما يظهر شبان ملثمون يحملون وجبات الطعام وعلى ما يبدو ينتظرون حتى الانتهاء من تصويرهم كي ينزعوا اللثام ويبدأوا تناوله، أما التعقيبات والمشاركات فكلها مديح وشعر وثناء وإطراء وتغنّي بهذا "المشهد الجمالي" الذي كدنا ننساه ربما لنُدرته هذه الأيام!!

هذا المشهد المرعي من قبل أسماء مطاعم شهيرة ومغمورة في مدينة رام الله، ذكّرني بأيام "الكنتاكي" في ثورة "25 يناير" حين حاول إعلام الرئيس المعزول حسني مبارك تشويه صورة الثوّار في ميدان التحرير وبرهنة وجود "مخططات وأجندات خارجية" عن طريق عرض تناولهم وجبات "الكنتاكي" الأميركية.

ولا أعرف حقيقة الرابط العجيب بين الحالتين، لكنه مرّ في البال وسمحتُ له بالمرور! وفي سياق متصل، تذكّرت مناقشات طويلة حول طبيعة العمل التطوعي في فلسطين، التي بدأت تفقد بذرتها النقيّة مذ بات المتطوعون يتلقون مبالغ مالية "رمزية" أو "ساندويشات" مقابل "التطوّع" الذي يقومون به، إضافة إلى وجبات الغداء الدسمة التي تناولها معظمنا في مؤتمرات مرعيّة من مؤسسات أجنبية أو الــ"Snacks" التي تضم حلويات وموالح خفيفة إلى جانب مشروبات باردة وساخنة، ويتم تقديمها خلال ورشات عمل أحيانًا لا تتجاوز مدتها ساعتين، حتى صار الأمر جزءًا من بروتوكول أي فعالية نسأل عنه حال غيابه.

هذا التذكّر بين المقاربات والمُفارَقات، يقودني إلى تفسير الحالة "الثورية" التي أناظرها من بعيد، ولم أخض ميادينها إلى الآن، فمثلي مثل الكثيرين من جيلي، استرحنا مُحبَطين من تكرار الأخطاء واللامنهجية واللاعقلانية المفرطة في مراحل فلسطينية مختلفة، وقررنا "التفلسف" من أجل حرب بمعايير أفضل من السابق لتحصيل نتائج أفضل.

أنا أشعر داخليًا أن هذه الوجبة ستُفسد الروح الغاضبة لدى هؤلاء الشبّان، الذين سواء اختلفتُ أو اتفقتُ مع فعلهم، لا ينفي كونهم يعبرون عن حالة شعورية معتدّة كريمة تأبى الذل، لا يطلبون لقاءها أيّ مقابل، بينما تأتي الكاميرات لتلتقط لحظات طعامهم التي هي أبعد من كل تلك القيم عنهم. 

يذهب الشاب أو الفتاة إلى المواجهات حاملًا بيده حجر، بجسد عارٍ من أي واقٍ للرصاص، ويعلم بالضرورة أنه معرّضٌ للإصابة أو القتل برصاص الجندي الذي لن يتردد عن قَنصه، بالتالي هو ذهبَ طوَاعية ومحركّه فقط شعوره الداخلي جرّاء كل ما يرى، ولا يحتاج إلى طعام أو مال أو وظيفة تُفسد نقاء هذه المشاعر وربما براءتها في كثير من الأحيان.

قد يبدو الأمر للكثيرين بعيدًا جدًا عن كل هذا التعقيد في طَرحي، لكن لكلّ كَبيرةٍ صغيرة، وهذه الصغيرة تمسّ مبادئ الحياة، التي شهدت للأسف، تخلخلًا، عبر سنيّ طويلة من نضال الشعب الفلسطيني، حين صارت المقاومة في زمن ما مهنة يُجنى من ورائها، فلا تجعلوا ضرب الحجارة مهنة، ولا تُلزموا شخصًا بها عبر "توفير كافة الاحتياجات" كي يظلّ مواظبًا عليها، وقد يكون قرر أن يأتي ساعتين أو ثلاث ساعات من الغَضب ويغادر، أو يظلّ من الصّبح حتى المساء على "نفَسٍ واحد" لأنه يُريد، وحده يريد ذلك، ويحلو له الأمر دون مقابل.

(الحياة الجديدة)