السعودية ومصر.. المنحة والمقابل

بالعربي: كتبت ,وفاء صندي: كتبت في هذا المنبر في وقت سابق وعند تولي الملك سلمان حكم السعودية ان جلالته ماض في سياسة خارجية اسلافه، وربما اكون على صح او ربما اكون اخطأت التوقع. لكن المؤكد انه وإن لم تكن هناك الى حدود الان سياسات فعلية تثبت اي تغيير حقيقي في السياسة الخارجية السعودية الا ان معظم ماتم تدواله على مدار الايام السابقة يوحي ان ثمة تغيير يعد له تجاه مجموعة من القضايا اهمها الاخوان المسلمين وعلاقة المملكة بمصر ودورها في المنطقة، وهذا ما أكد عليه الكاتب السعودي خالد الدخيل في احدى مقالاته حيث اشار الى وجود “قلق مصري من التغير الذي حدث بالسعودية وهو قلق له ما يبرره وهو قلق حقيقي لكون أن النظام بمصر يريد العلاقة مع السعودية على أساس منحة ملكية لا ترد أو تفويض على بياض وذلك خطأ جسيم”. وقد اضاف الدخيل “من هذه الزاوية جاء تأكيد الملك سلمان بن عبدالعزيز على أن الدعم السعودي لمصر لن يتغير. أين المشكلة إذا؟ تبدو المشكلة، كما أشرت، في أسلوب هذا الدعم وإطاره. يريد البعض في مصر أن يكون الدعم السعودي على شكل هبة أو منحة ملكية مفتوحة، أو شيك على بياض، كما يقال. لا ينبغي للسعودية أن تتقارب مع تركيا، مثلا، لأنها تتعاطف مع “الإخوان”. وفي هذا تجاهل لبديهة أن علاقات الدول لا تقوم على مثل هذه الرؤية، لأنها عاطفية وليست سياسية”.

والحقيقة استوقفني كثيرا ما جاء في هذا المقال من عبارات من قبيل “منحة ملكية”، “هبة مفتوحة”، “شيكا على بياض”.. مع العلم ان الكاتب الكبير يفرق جيدا بين الرؤى العاطفية والحسابات السياسية في العلاقات بين الدول.. وانا هنا اتساءل: هل ما اشار إليه الاستاذ الدخيل من دعم وهبات ومنح، هل هي عطايا مجانية ام دعم مالي يدخل ضمن مصالح مشتركة؟ وللرد على هذا السؤال وللوقوف عند التغيرات في السياسة الخارجية السعودية التي طالما اتسمت بالارتجالية سوف اعود بالتاريخ الى ما بعد انطلاق الثورات العربية. فمنذ اندلاع شرارة الغضب في المنطقة العربية، اعلنت المملكة السعودية تخوفها ورفضها التام لما يسمى بالثورة بشكلها العام سواء كانت حراكا ثوريا أو مطالب شعبية مشروعة، حيث اعتبرت هذه الحراكات والثورات مرفوضة جملة وتفصيلا، بل وأعلنت وجوب العمل على مواجهتها في الداخل والخارج. وكان لها دور كبير في قمع الاحتجاجات في البحرين بطريقة مباشرة، حيث ارسلت قوات درع الجزيرة لمواجهة المحتجين وحماية الأماكن الحيوية في البلاد، وتجاهلت تماما الحراك الليبي برغم الخصومة الشديدة مع القذافي. كان موقفها من اليمن مؤيدا للرئيس اليمني معارضا للحراك الشعبي، إذ تبنت المبادرة الخليجية التي بمقتضاها خرج الرئيس اليمني علي عبدالله صالح خروجا أمنا. أما الموقف من سوريا فقد كان مختلفا حيث لم يتوانى النظام السوري وإعلامه ومؤيدوه من توجيه أصابع الاتهام إلى السعودية بتمويلها ودعمها للمعارضة السورية وتسليح الثوار وباقي التنظيمات للتخلص من نظام بشار الأسد، ومنه شل حركة الامتداد الايراني في المنطقة، وتمكين السعودية من دورها الاقليمي المناهض لإيران، ومن ثمة جعل السعودية هي المحرك الدولي في هذه المنطقة الساخنة، للعمل على تهدئة الاوضاع فيها لصالح الموقف الدولي، وايضا خدمة لمصالح السعودية التي تبحث بلا شك عن دور اقليمي يحصن أمنها وعقيدتها بالدرجة الاولى.
ومع وصول الانظمة “الاسلامية” الى المنطقة، حاولت السعودية عقد مصالحة مع الشعوب العربية من خلال ابداء تأييدها ودعمها للحكام الجدد، وقد تعهدت في عهد محمد مرسي بتقديم مساعدات تصل إلى ثلاثة بلايين دولار أمريكي، لكن سرعان ما تضاربت مصالح المملكة مع اخوان مصر وتوترت العلاقات بينهما بعد حديث عن علاقة خفية وقوية تربط الجماعة بإيران، لتظهر بعد ذلك رغبة السعودية، وان لم تكن علنية، في ازاحة الاخوان من المشهد المصري وبالتالي قطع الطريق على أي علاقة يمكن ان تجمع مصر بايران ما يعني ابعاد السياسة المصرية عن تمنيات طهران. وهذا ما يفسر الدعم السياسي السعودي السريع للجيش المصري بعد 30 يونيو وتعهدها ومعها الإمارات ثم الكويت بتقديم دعم اقتصادي لمصر وصلت قيمته إلى 12 بليون دولار أمريكي. وهو الدعم غير المجاني والذي ليس بالتأكيد “هبة او منحة او شيكا على بياض”، فالعلاقات بين الدول لا تبنى ابدا على العواطف وانما فقط على المصالح المشتركة، وقد تحققت المصلحة فعلا وأدت مصر الفاتورة سلفا باسقاط نظام الاخوان وما كان يشكله من تهديد على، امن مصر اولا، وامن السعودية ودورها الاقليمي وصراعها مع ايران، وفاتورة مؤجلة من خلال تعهد الفريق عبد الفتاح السيسي بأن يكون الجيش المصري على بعد “مسافة السكة” من الامن الخليجي المحاط بالمخاطر.
لكن بعد وفاة الملك عبدالله، اكتشفت السعودية فشل سياساتها السابقة في المنطقة، وهو فشل حقيقي اذا ما نظرنا الى واقع الحروب في العراق وسوريا واليمن وتغول داعش وتفشي خطر الارهاب في المنطقة، فالمساعدات المالية التي تشكل الآلية الأهم في السياسة الخارجية السعودية، افرزت نتائج كارثية تحاول السعودية ربما تداركها باعتماد مقاربة جديدة، لاتزال غير واضحة تماما، وان كانت كل المؤشرات توحي بتنسيق سعودي- امريكي- تركي يراد منه تحقيق الاستقرار والمصالحة بين الاطراف المتنازعة، والتوجه إلى استعادة دور السعودية التقليدي خاصة بين فتح وحماس، وربما اعادة فتح قنوات التواصل مع اخوان مصر باعتبار قضية الاخوان “قضية مصرية محلية” كما جاء في مقال الاستاذ الدخيل، وان كانت السعودية قد اعتبرتهم في وقت سابق تنظيم ارهابي، فيما تم التأكيد على ان الدعم السعودي لمصر لن يتغير !.
والواضح من كل هذه المتغيرات ان السعودية تبحث عن خلق توازنات جديدة تعيد من خلالها صياغة سياستها الخارجية المبنية اساسا على مصلحة المملكة ومايمكن ان تقوم به من تحالفات لمواجهة التحديات التي باتت تهدد المنطقة بالكامل، وهذا ما يفسر اختيار الملك سلمان استقبال الرئيسين المصري والتركي في نفس التوقيت، ما يعني ان المملكة على نفس المسافة من مصر وتركيا. وهذا التوجه الجديد وما سوف يليه ربما من سياسات وقرارات تبقى حقا مشروعا لدولة تريد تغيير اوراق لعبها في عهدها الجديد، مع تمنياتيا دائما ان تكون هذه القرارات مدروسة وليست ارتجالية كسابقاتها، كما هو حق مشروع ان تحتفظ مصر وغيرها بسيادة قرارها السياسي سواء فيما يخص جماعة الاخوان او علاقتها بقطر وتركيا.. والعالم بالنهاية لا يسير وفق الاهواء ولكن فقط بناء على المصالح التي، اعتمادا عليها، لم تنسى السعودية في خضم تحولاتها ان مصر تعتبر جزءا من امنها الاستراتيجي. فيما يجب أن لا ننسى جميعا بأن مصر رغم كل تمر به من ازمات، فهي عمود اساسي في توازن واستقرار المنطقة، كما أنها رقم، كان وسيبقى، صعبا في المعادلة الاقليمية يستحيل زعزعته او تجاوزه..