قبل الثورة وبعدها.. لماذا نحن وحيدون؟

بالعربي-كتب محمد خالد: تركتُ الجامعة، بعد أن تهتُ داخلها لسنوات، وحصلت على عملٍ في مجال التنمية. أصحو اليوم، وأنا أعرف تماماً، أنّني لم أكن لأصحو في الصباح، ولم أكن لأشدّ ساقيَّ بعناء من يجرجر جِوالات من الأرز، وأبدّل ملابسي، وأخرج إلى الشمس والشوارع والناس، لولا واجبات العمل. أعرف بإدراك داخلي مسبق، أنّني أستنفد فرصي الأخيرة، وأنّ لا داعي للانزواء داخل غرفتي لأنام، فارضاً على نفسي عزلةً جديدة.

قبل شهور من هذا اليوم، هاجر أغلب أصدقائي المقربين خارج مصر، والباقون، إمّا غارقون في عملهم، للتمسّك بأي فرصة للسفر، وإما يعيشون على بعد مئات الكيلومترات من بيتي. وقتها كان هناك العديد من الاحتمالات لمقابلة الأصدقاء والمكوث معاً لأطول وقت ممكن.
اليوم أعرف أن زمن الجلوس الطويل مع الأصدقاء في المقاهي قد ولّى، مثلما أعرف أنّني، الآن، في هذه اللحظة، وحيد.

بالرغم من ذلك، لم يكن شكل ممارستنا الاجتماعية كأصدقاء في تلك الفترة يسير بأفضل طريقةٍ ممكنة. كنّا جميعاً منصرفين إلى ذواتنا، كنّا نشكل نقاط تفتيش أمام كلّ عبارةٍ نريد أن نقولها، تاركين أغلب كلامنا الثقيل والمسلّح في داخلنا فقط. بطريقة ما، كنّا وحيدين أيضاً ونحن معاً، هنالك شركاء في الوحدة أيضاً، نمارس معهم الصورة الاجتماعية للوحدة، نشاركها سوياً.

اليوم، حتى شركاء الوحدة، لم يعودوا موجودين، ولم يعد يتبقى سوى وجه الوحدة الجاف والصلب.

فبراير 2011

دخلت ميدان التحرير لأول مرة يوم 10 شباط/ فبراير، بعد خطاب حسني مبارك الأخير مباشرة. كنت يومها مع أحد الأصدقاء، وأتذكّر أنّني لم أهتم مباشرة بالخطاب وبالوضع الجديد، قدر اهتمامي بالبحث بين المعتصمين عن وجوه أعرفها. قابلت أحد الأصدقاء، وكان يشعر بغضب شديد جراء الخطاب، ذهبت إليه فرحاً ومبتسماً، وسألته: "مالك يا عم مكشّر كدا ليه؟!".
نظر إليّ بدهشةٍ وغضب، وقال بسخريةٍ شديدة: "مسائل شخصية!".

بعدها بدأت أدرك أنّني في ثورة، أنّ هناك حدثاً عظيماً يدور، وأنّ هناك رئيس دولة على حافة الهاوية، لكنّه لا يزال يتشبّث بأوهن الخيوط.
الثورة كانت بالنسبة للكثيرين منّا، فرصةً ضخمةً وأخيرة للحصول على أصدقاءٍ جدد. كنّا نمثل طبقةً اجتماعيّةً ممزّقة تعاني نوعاً من الحذر تجاه الحياة الاجتماعية. كنّا وحيدين بشكلٍ ما، حتّى أمام الثورة. لم نُكوّن ولاء خالصاً فقط لفعل الثورة نفسه، لكنّنا كنّا نبحث خلالها عن أناسٍ نشبههم أو يشبهوننا، فقط لنشعر بنوع دافئٍ من الأمان، أنّنا لن نسير وحدنا بعد ذلك أبداً.

الثورة كانت مشروعنا الاجتماعي الذي أسّسنا به حياتنا الجديدة.

عندما رحل الأصدقاء من مصر، وأصبحنا بعيدين عن بعضنا البعض، صرنا في أكثر حالات صداقتنا تقارباً. نتحادث بشكل شبه يومي، ونحكي عن تفاصيل حياتنا الخاصة بحريّة شديدة، دون حساب، الأمر الذي لم يكن موجوداً قبل رحيلهم. سألت أحد هؤلاء الأصدقاء عن سبب ذلك، فأجابني: "الخوف".

بعد إقصاء محمد مرسي، وما شاهدناه من عنفٍ في الشارع، وصولاً إلى اعتصام "رابعة العدوية"، داهمنا جميعاً شعورٌ بانهيار الثورة. كان العنف يؤكّد أنّ مشروعنا الاجتماعي هذا مجرّد وهم، وأنّنا أطراف بعيدة، وأنّه لا سبيل لتحقيق حلمٍ مشترك.
الثورة التي انهارت جعلتنا نشعر أنّنا وحيدون مرّة أخرى، وأنّنا لا نزال أفراداً ضئيلين أمام الكيان الضخم الذي يتحكّم بمصائرنا جميعاً. انهيار الحلم الجماعي وضعنا أمام فرديةٍ محتومة، تولّد منها هذا الشعور بـ "الخوف"، أننا مهدّدون كأفراد جميعاً. لم نعد نثق بمن أخفقوا معنا، وبدأ كلّ واحدٍ منّا في تحديد مقدار خسائره الشخصية. لم يعد يملك الفرد منّا إلا نفسه، وعليه أن ينجو بها قدر الإمكان.

حلم

"كنا معاً هنا، في فرجينيا، وقد قرّر جميع الأصدقاء مقاطعتنا. كنت تأتي إليّ كل يوم ليلاً، إلى العمل، لتقودني إلى المنزل. كنت هادئاً ورزيناً ووديعاً، وكنت تعاملني كأنّني شقيقك الكبير. على العشاء حدّثتني عن حياتنا في مصر، وعن بعض المواقف التي اختلفنا فيها، قلت لي إنّك على استعداد لفعل أي شيء لأكون الآن سعيداً، أجبتك أنّني لا أحمل أي ضغينة بخصوص الماضي، وأنّني ممتن له، ولكن لو استطعت فعل شيء يمكن أن يجعلني سعيداً الآن، فهو أن نترك العمل غداً ونخرج لنخيّم في الغابة.

في الغابة نكتب ونصوّر، ونتعقب صيادي الغزلان ونفضحهم، ثمّ أشعر بألمٍ في ظهري ونحن على منحدر أحد الجبال، ولا أستطيع أن أتحرّك، وتهبّ عاصفة، ولا نستطيع نزول المنحدر. تسألني بقلقٍ شديد ماذا يمكننا أن نفعل، فأجيبك أنّ علينا صعود المنحدر مرّة أخرى، لنختبئ بين الصخور. نصعد مرّةً أخرى، برغم العاصفة والألم، ونحن نضحك، ونخرج زجاجة ويسكي، ونجلس لنشرب، فيما تكون أنت حانقاً بشدة، لأن السجائر قد نفدت..".