إضراب المعلمين في فلسطين .. والإحتقان الداخلي

بالعربي- كتب نبيل دويكات:

لا تزال تداعيات وإنعكاسات الإضراب الذي يخوضه معلمو المدارس الحكومية في فلسطين منذ عدة أسابيع تتدحرج شيئاً فشيئاً، وفي تدحرجها بهذه الصورة وإستقطابها لإهتمام واسع من المجتمع بكل فئاته وشرائحه وهيئاته ومؤسساته إنما تدق جرس إنذار  يؤشر لنا، وبصورة مكثفة وواضحة، على أننا نعيش كمجتمع حالة متدحرجة من التردي والإحتقان تقودنا الى منعطفات مجهولة وخطرة، سوف تؤدي بنا، لا سمح الله، الى حالة من حالات الإنفجار الداخلي الذي قد تطال شظاياه كل جوانب ومجالات وفئات ومؤسسات مجتمعنا. ولم يكن إرتفاع وتيرة وحدة الجدل والنقاش الداخلي هي الدليل الوحيد على ذلك. بل شهدنا خلال الأيام الأخيرة ميل هذا الجدل الى إتجاهات أكثر عدائية وعدوانية من مجرد الإختلاف في وجهات النظر والمواقف. وحملت الأيام الماضية جملة من الأحداث التي غلب عليها طابع "التهديد"، سواء بصورة مبطنة أو صريحة. والتعبير الأخطر عن كل هذا التوجه هو ظهور بعض الحالات التي تم خلالها تسجيل حالات "عنف" أو التهديد بإستخدامه، وإنتهاك للحقوق والحدود المتعارف عليها.

السؤال الذي يتبادر الى أذهان الكثيرين هو: هل قضية إضراب المعلمين ومطالبهم الحقوقية، مهما كانت درجة الإختلاف في وجهات النظر حولها، قادرة، أو هي فعلاً التي أوصلتنا الى الحالة التي وصفتها أعلاه؟! قبل الإجابة على السؤال، وفي سياقه فإنه لا بد من تسجيل أمرين أعتقد أنهما في غاية الأهمية لكي نتمكن من الإقتراب أكثر من الوصول الى إجابه تسهم في تحليل الواقع. الملاحظة الأولى تشير الى أنه لا يمكن بحال من الأحوال الإستهانة، أو التقليل من أهمية قطاع المعلمين، سواء من ناحية الحجم أو الدور والفعل المجتمعي أو إمتداداته وعلاقاته وتأثيراته المتشعبة في كل المجتمع. كما لا يمكن، ومن غير المنطقي أصلاً، الإستهانة بحركة ومطالب عشرات ألوف من المواطنين وتحركهم من أجل جملة من المطالب الحقوقية والنقابية التي تكفلها كل الأنظمة والقوانين الإنسانية. أي مدخل يتجاهل ذلك إنما يسهم في تعقيد الأمر وليس في تفكيكها. أما الملاحظة الثانية فهي تتعلق بالتوجه القائم على فكرة "المؤامرة"، سواء داخلية أو خارجية. فليس من الصواب أبداً إدخال كل هذه الحركة المطلبية في "خُرُم" فكرة المؤامرة. وهنا لا أود أن أستبعد فكرة المؤامرة بصورة مطلقة، لأن "المؤامرة" تتربص دائماُ في كل صغيرة وكبيرة في مجتمعنا. لكن لا يجب أن يغيب عن بالنا مقولة أن "الطفيليات لا تنمو إلا في المياه الآسنة". أي أن حل ومعالجة المشكلات والقضايا كفيلة بإغلاق الباب أمام أي مؤامرة، مهما كانت. وتجاهل وجودالمشكلات إنما هو الذي يبقي الباب مشرعاً أمام كل أنواع المؤامرات والمتآمرين.

وبالعودة الى السؤال فإن الإجابة الأولية سوف تشير الى أن قضية إضراب المعلمين هي نتيجة لما آل اليه وضعنا المجتمعي خلال السنوات الأخيرة، وليست سبباً في ذلك. إما في وصف الحالة التي يعيشها مجتمعنا فإنني سأكتفي بالاشارة الى بعض العناوين والأمثلة الرئيسية، هذا طبعاً دون إغفال جانب وجود الإحتلال وتأثيراته المختلفة التي تضيف مزيداً من التعقيد يحتاج الى معالجة وتحليل مختلف ومن زوايا مختلفة.

أولاً: الإنحدار المتواصل في مجمل البنى السياسية- الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع. سواء من ناحية القيم والأخلاقيات، أو من ناحية السلوكيات والأنظمة والإجراءات والهيئات والمؤسسات التي ترتبط بتلك القيم والأخلاقيات.
ثانياً: تفشي وإنتشار العديد من الظوهر الإجتماعية كالعنف المجتمعي، على إختلاف أشكاله وأنواعه، والمخدرات، التهريب والسرقات، التهرب والتحايل وأحياناً التعدي والتطاول على القانون والنظام، الإتجار وتسويق السلع والبضائع الفاسدة، الواسطة والمحاباة وعدم المساواة، البطالة.. وغيرها من الظواهر السلبية.

ثالثاً: تراجع وإنحدار مستوى الأداء في الهيئات والمؤسسات الرسمية المختلفة، وقدرتها على تقديم خدمات ذات جودة مناسبة تلبي حاجات الفئات والشرائح الأجتماعية المختلفة، في العديد من القطاعات والمجالات. وتراجع مستويات الشفافية وغياب الرقابة والمساءلة والمحاسبة على عملها، وهو ما يتسبب في زيادة فجوات "التواصل" مع قاعدة آخذة بالتوسع من جمهورها.

رابعاً: تراجع متزايد في دور الأحزاب والنقابات ومختلف المؤسسات التي تندرج تحت مسمى "مؤسسات المجتمع المدني"، التي باتت تعاني من حالة أشبه ما تكون في محاولات مستمرة للحفاظ على الذات أو الوجود، عوضاً عن الدور الذي يتوقع منها القيام به في قيادة الفئات والشرائح التي تمثلها خلال نضالها من أجل التأثير في السياسات العامة، وتوجيه بوصلتها الى اتجاهات اكثر استجابة وتلبية لحاجاتها ومطالبها.

خامساً: تراجع وتآكل "الشرعيات" على كل المستويات، نظراً لتراجع مستوى الحريات العامة وحرية التعبير والديمقراطية والإنفتاح والشفافية، وغياب التجديد وبث روح الحيوية في مختلف مستويات القيادة، وهو ما أدى الى الكثير من التساؤلات ليس فقط على شرعية وجود وإستمرار القيادات، بل وصلت التساؤلات أحياناً الى شرعية وجود المؤسسات نفسها، وقدرتها على تمثيل والتعبير عن مصالح وحاجات الشرائح والفئات الواسعة من المواطنين.

سادساً: تراجع، بل وغياب الكثير من المفاهيم الهامة وتطبيقاتها العملية الضرورية لوجود حالة من السلم والأمن والهدوء المجتمعي كمفاهيم الحرية، العدالة، المساواة، تكافؤ الفرص.. وغيرها من المفاهيم التي تقدم للأفراد والجماعات حالة من حالات الإستقرار والأمل بإمكانية التقدم والتغيير نحو الأفضل.

ليس القصد من الأمثلة والعناوين الرئيسية التي ذكرتها أعلاه هو خلق حالة من التشاؤم وإنعدام الأمل، ببساطة لأن هذه الحالة قائمة وموجودة أصلا لدى أعداد متزايدة من المواطنين، ونجدها منتشرة في أوساط هامة في مجتمعنا. وسرعان ما نلاحظها خلال حواراتنا وأحاديثنا في محافل كثيرة من خلال تساؤل يبرز بصورة أشبه بالتلقائية حول "الإتجاه الذي تتجه اليه البلد؟!".

وإنما الهدف من مقالتي هذه هو تسليط ضوء مكثف أكثر حول الأسباب والمسببات، وخلق حالة من الجدل الداخلي التي تستند الى منطلقات أكثر واقعية وعملية في رؤية منابع وجذور المشكلات والأزمات، وبالتالي تعزيز القدرة وإحتمالات النجاح في إيجاد المخارج الصحيحة والمناسبة للخروج منها. وقد تكون قضية إضراب المعلمين علامة فارقة هامة، لكنها قطعاً لم تكن البداية. بل إن المظاهر المختلفة لهذه الحالة تتراكم منذ فترة طويلة، تختمر وتنعكس على شكل أزمات وقضايا لا تكاد أحدها تختفي حتى تطل أخرى برأسها، فمن إضراب وإحتجاجات طلبة و/ أو موظفي الجامعات الى سائقي السيارات، الى الباعة المتجولين مروراً بأصحاب المخابز والعاطلين عن العمل والمزارعين والتجار والمهنيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والمرضى، وليس إنتهاءاً بالموظفين في القطاع العام أو الخاص أو الأهلي أو حتى الأسرى المحررين، والقائمة طويلة على إمتداد السنوات الماضية.

خلاصة القول أنه من الصعب النظر الى موضوع إضراب المعلمين وتداعياته المختلفة بعين واحدة ومن بُعدٍ واحدٍ فقط. إنها في إعتقادي قضية خطيرة، ولا تتمثل في الإستجابة لمطالب المعلمين وتلبيتها، فهذا يمكن أن يعالج الوضع الآني فقط، ولا يلامس الحلول والمعالجات الجذرية للأزمات المختلفة. ناهيك عن الإتجاه الذي يمكن أن تجري فيه الأمور في حال الإصرار على عدم الإستجابة وإيجاد حلول ومعالجات، ولو حتى آنية، حيث من المتوقع أن يكون هناك إنعكاسات وتداعيات سلبية ربما يصعب حصرها في المستوى المنظور. ليس هناك أدل على هذا الخطر من تداعي ومبادرة الكثير من الفعاليات المجتمعية كالنقابات، البلديات، أحزاب وقوى سياسية، مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، المجلس التشريعي والكتل البرلمانية، أولياء أمور طلبة وفعاليات أخرى كثيرة، وليس آخرها الأسرى في سجون الإحتلال ودخولها على خط طرح مبادرات وحلول لإيجاد حلول ملائمة لهذه القضية. في إعتقادي ان كل هذه المؤشرات إنما تدعم المقولة بأن قضية إضراب المعلمين وملابساتها وتفاعلاتها ليست إلا تعبيراً عن حالة إحتقان داخلي تتطلب أقصى درجات اليقظة والحذر في معالجتها ووضع الحلول الجذرية والمناسبة لها.