قصة أشهر عملية اغتيال في تاريخ مصر الحديث.. هكذا غنى المصريون للقاتل

بالعربي: ما بين الباشا والشاب حكاية شغلت مصر لسنوات، ما بين مؤيد لما فعله الشاب ومدافع عن الباشا، وقعت مصر في جدل لم تنجح السنين في إنهائه، إنه الباشا بطرس غالي، والشاب إبراهيم ناصف الورداني.

لم يكن اغتيال بطرس غالي باشا، رئيس وزراء مصر (1908-1910) مجرد حادثة اغتيال عادية، بل كانت حدثا هز المحروسة، وخبرا تحدثت عنه البلاد بطولها وعرضها، كونها أول عملية اغتيال لمسؤول مصري في التاريخ الحديث، ثاني عملية اغتيال في تاريخ مصر الحديث بعد كليبر قائد الحملة الفرنسية الذي خلف نابليون بونابرت في مصر.

بطرس باشا غالي، أول قبطي يحصل على لقب  البشوية، وعين وزيرا لخارجية مصر في عهد المعتمد البريطاني لورد كرومر (1885 — 1908)، ثم رئيسا للوزراء (1908- 1910)، وهو جد بطرس غالي المستشار السابق للرئيس محمد أنور السادات للشئون الخارجية والأمين العام السابق للأمم المتحدة.

في الواحدة ظهر يوم 20 فبراير 1910، خرج بطرس غالي من مكتبه، وما أن هم بدخول سيارة رئاسة الوزراء حتي دوت 6 رصاصات، استقرت ثلاث منها في رقبته، واثنتان في كتفه، فغرق في دمائه، وأمسك الحراس بالشاب الذي أطلق الرصاص، ونقل بطرس غالي للمستشفى وهناك أجروا له عملية جراحية استغرقت ساعة و نصف، و لكنه فارق الحياة في نفس اليوم.

أسباب اغتيال الباشا
عندما سُئل إبراهيم ناصف الورداني (24 سنة) في التحقيق المبدئي عن السبب الذي دفعه لقتل رئيس وزراء مصر، قال جملة واحدة "لأنه خائن للوطن".

ويرجع المؤرخون ما قاله الورداني إلى عدة أسباب رئيسية، يعتقدون أنها كانت السبب في الغضب من بطرس باشا غالي، وإقدام الورداني على قتله، السبب الأول عندما كان وزيرا للخارجية وقع مع المعتمد البريطاني اللورد كرومر على اتفاقية الحكم المشترك للسودان بين مصر وبريطانيا. وهي الاتفاقية التي منحت صلاحيات للإنجليز أكبر من الجانب المصري في حكم السودان، وكانت تعني فعليا انفصال السودان عن مصر للأبد.

أما السبب الثاني الذي ذكره المؤرخون في أسباب الغضب الشعبي من بطرس غالي باشا، هو ترؤسه للمحكمة التي شكلت لمحاكمة أهالي دنشواي بعد حادثة دنشواي التي أصيب فيها ضابط إنجليزي برتبة كابتن بضربة شمس و مات.

وهي المحكمة التي أصدرت أحكاما قاسية علي بعض أهالي دنشواي تمثلت في الحكم بالإعدام على أربعة منهم والأشغال الشاقة بمدد مختلفة على 12 منهم و بالجلد على خمسة متهمين. فتحمل بطرس غالي كثير من الغضب الشعبي علي اعتبار أنه كان رئيس المحكمة المخصوصة.

ولعب بطرس غالي دورا في مشروع مد امتياز قناة السويس لمدة 40 عاماً أخري في مقابل عدة ملايين من الجنيهات تدفعها شركة قناة السويس للحكومة المصرية ونسبة من الأرباح من عام 1921 إلي 1968، وهذا هو السبب الثالث الذي وضعه المؤرخون للغضب من بطرس غالي باشا، خاصة بعدما حاولت حكومة بطرس غالي إخفاء الصفقة عن الرأي العام المصري. ونشر محمد فريد نسخة من المشروع في جريدة "اللواء" وهاجم الحكومة وطالبها بعرض المشروع على نواب الأمة.

وبالفعل عرضت الصفقة على الجمعية العمومية ودار نقاش عنيف بين النواب من ناحية وبطرس غالي من ناحية أخري الذي ما كان منه إلا أن احتد على الأعضاء الذين عارضوا المشروع وهددهم، ونشرت تفاصيل الجلسة في الجرائد، وزاد الغضب من بطرس باشا، وبعد عشرة أيام فقط من هذه الجلسة العاصفة تم اغتيال الباشا.

وحاول بطرس باشا تبرئة نفسه من التهم التي وجهت إليه، فقال وهو في المستشفى قبل وفاته بدقائق "يعلم الله أنني ما أتيت ضرراً ببلادي، و لقد رضيت باتفاقية السودان رغم أنفي وما كان باستطاعتي أن اعترض عليها. إنهم يسندون إلي حادث دنشواي، و لم أكن منها و لا هي مني، و يعلم الله أنني ما أسات إلي بلادي".

كيف كانت محاكمة الورداني

لم تبدأ محاكمة الوردانى إلا بعد شهرين من وقوع الحادث، أى فى 21 أبريل، وكان يرأس المحكمة الإنجليزي دلبر وجلي، وحملت المحاكمة تفاصيل مثيرة، وتذكر كتب التاريخ أن الشاب لم يندم على ما أقدم عليه، وتحلى برباطة جأش أثناء التحقيق معه وصفت بـ"الغريبة".

كتب الشاب بخط يده اعترافا بأن أقدم على عملية الاغتيال دون مشاركة من أحد، ورغم ذلك حققت النيابة العامة وقتها في انتماء الشاب لجمعية متطرفة، اسمها "جمعية التضامن الأخوي" والتي كانت تشترط علي من ينضم إليها أن يكتب وصيته، والتي تبين أنه هو من أسسها، وقبلها كان عضواً في جمعية "مصر الفتاة"، إلا أن التحقيقات أثبت عدم مسؤولية الجمعية عن العملية لأن نشاطها كان قد توقف قبل العملية بفترة وأن أعضائها انشغلوا في أعمالهم الخاصة.

في التحقيق حاول الإنجليز الترويج لفكرة أن الاغتيال كان نتيجة التعصب الإسلامي تجاه المسيحيين، فجاء رد المحامي المسيحي ناصف أفندي جنيدي منقبادي: "إننا جميعا قد ضاقت صدورنا من السياسة المنحازة للإنجليز التي كان يدافع عنها بطرس باشا، و إنني لأصرح بصفتي مصريا قبطيا أن حركتنا إنما هي حركة وطنية ترمي إلي الحرية".

ودافع عن الورداني زمرة من المحامين المصريين، من أشهرهم أحمد لطفي السيد باشا.

وفي 12 مايو 1910 صدر الحكم بإحالة أوراق المتهم الورداني إلى بكري الصدفي، مفتي الديار المصرية للتصديق على إعدامه، إلا أن مفتي الديار المصرية وقتها رفض حكم الإعدام، وكان هذا أو رفض من دار الإفتاء لحكم إعدام، إلا أن القاضي الانجليزي تجاهل رفض المفتي، وكذلك رفض الطعن الذي قدمه دفاع الورداني في 10 يونيو، وتم تنفيذ حكم الإعدام يوم 28 يونيو 1910، ووقف الوداني على طبلية الإعدام وبعدما نطق الشهادة قال  "الله أكبر الذي يمنح الحرية والاستقلال".

رد الفعل الشعبي والرسمي على اغتيال الباشا وإعدام الشاب

عندما أبلغ الخديو عباس حلمى الثانى بخبر إطلاق الرصاص على بطرس غالي، غضب وتأثر أوامره فى الحال تليفونيا إلى فتحى باشا زغلول، وكيل وزارة الحقانية (العدل)، باتخاذ جميع الوسائل الممكنة بكل سرعة للعناية بالجريح.

وزار الخديو عباس، في المستشفى وعندما دخل عليه فى غرفته وقبله فى وجهه، تنبه بطرس قليلا، فجعل يقول: "العفو يا أفندينا.. متشكر.. العفو يا أفندينا.. متشكر"، وأمر الخديو أن تبلغ له أخبار الباشا أول بأول.

وما أن أعلنت وفاة بطرس باشا، عقد مجلس النظار (الوزراء) برئاسة الخديو فى سراى عابدين، وقرر تعطيل نظارات الحكومة وجميع مصالحها والمدارس الأميرية إلى أجل غير مسمي. وكذلك تنكيس الأعلام على الثكنات العسكرية ودور الحكومة حدادًا على الباشا.

كان هذا على المستوى الرسمي، بينما على المستوى الشعبي وبينما لاقى إبراهيم الورداني تعاطفاً كبيرا من الرأي العام المصري واسماه البعض "غزال البر"، وغنوا له صباح يوم اغتيال "قولوا لعين الشمس ماتحماشي لحسن غزال البر صابح ماشي"، وأصبحت هذه الجملة واحدة من أشهر جمل المصريين فى وداع كل عزيز، فاستخدمها شاعر العامية المصرية بيرم التونسى في قصيدة تتحدث عن الزعيم الوطني المصري سعد زغلول وقال: "قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. لاحسن رئيس الوفد صابح ماشى"، وكذلك هي الجملة التي أٌخذت منها أغنية المطربة المصرية شادية الشهيرة "قولوا لعين الشمس" لكنها بدلت "حبيب القلب" بـ"غزال البر".

ولاحظت الحكومة المصرية التعاطف الكبير مع الورداني، فمنع الجمهور أو مندوبي الصحف من مشاهدة تنفيذ الحكم، ومنعت المشاركة في تشييع جنازته إلى مقابر الإمام الشافعي، وأيضا منعت الجمهور من التجمهر عند قبر إبراهيم الورداني، وأخيرا أصدرت الحكومة قرارا يحرم علي أي مصري الاحتفاظ بصورة الورداني، وهو القرار الذي استمر حتى ألغته ثورة يوليو 1952.