"آلتالينا" كادت أن تسبّب حرباً أهلية.. لماذا تبحث "إسرائيل" عنها بعد 70 عاماً؟

بالعربي: هناك أحداث في التاريخ كان يمكن – في حال اكتمالها - أن تغيّر العالم بشكل جذري، واحدة منها هي حادثة قصف السفينة "الإسرائيلية" آلتالينا، بعد أيام قليلة من إقامة كيان الاحتلال عام 1948، وهي الحادثة التي أدت إلى حرب أهلية "مصغرة" لم تكتمل للنهاية في الكيان الوليد وقتها.

مؤخراً، زعم خبيران أنهما قادران على إيجاد حطام تلك السفينة، رغم أن الكثيرين في "إسرائيل" يؤكدون أن الأمر غير منطقي بسبب أن مهمة اكتشاف حطام السفينة، التي غرقت منذ سبعين عاماً، يتطلب قدراً كبيراً من المعرفة والبحث والوقت والمال.

لم يكن تصريح الخبيرين هو الأول من نوعه المتعلق بمحاولة إيجاد حطام السفينة، ففي العام 2012 ظهر حديث في "إسرائيل" عن "رفع حطام السفينة" لتصبح درساً لكل يهودي، على حدّ تعبير مدير مركز بيغن في القدس هرتزل ماكوف، الذي أعلن عن نيته إطلاق مشروع للبحث عن حطام السفينة أو على الأقل جزء منها من قاع البحر، بهدف بناء نصب تذكاري، لكن حتى الآن لم يجد المركز مصدراً لتمويل هذا المشروع.

ويعتبر المركز أن مناحيم بيغن هو الذي أنقذ "إسرائيل" من حافة الحرب الأهلية، حين قرّر ألا يقاوم جيش الاحتلال الوليد وقتها لإدراكه أنها قضية إستراتيجية.

وسواء نجح الخبيران في إيجاد حطام السفينة أو كان تصريحهما مجرّد خيال، سيظل هذا الحادث علامة فارقة في تاريخ "إسرائيل"، التي دخلت في حروب عدة ضد دول أخرى، وأدرك بعض سياسييها مبكراً أن الحرب الأهلية لن تكون أبداً في مصلحتها، وهو الدرس الذي لم يتعمله - للأسف - جيرانها العرب.

حكاية "آلتالينا"

كان الجو صيفاً، حين رست على شواطئ "إسرائيل" بكل ثقة وقوة سفينة محمّلة بالأسلحة، أحضرها تنظيم "الإيتسيل" (أحد التنظيمات السرية اليهودية المسلحة في فترة الانتداب البريطاني) إلى الكيان الناشئ وقتها من فرنسا، في محاولة لكسب الحرب بين "إسرائيل" والعرب، التي كانت قد بدأت ثم غيّرت خريطة الشرق الأوسط فيما بعد.

على السفينة كانت هناك كمية أسلحة كبيرة، من ضمنها حوالي الخمسة آلاف بندقية، عشرات الآلاف من القنابل، ملايين الرصاصات، رشاشات، مركبات مصفحة ومعدات ثقيلة أخرى.

من المهم هنا أن نذكر أن تنظيم الإيتسيل، الذي كان يقوده وقتها مناحم بيجن، لم يكن رسمياً ضمن القيادة "الإسرائيلية"، بل كان أشبه بشريك لتنظيم يهودي آخر هو الهاغاناه الذي كان يقوده دافيد بن غوريون.

لم يكن بيغن (القومي) وبن غوريون (الاشتراكي) متفقان في الأفكار والسياسات، والحقيقة هي أن بن غوريون وبيغن لم يحب كل منهما الآخر أبداً.

كان لكل منهما مواقف متناقضة تخص فكرة إنشاء "إسرائيل"، وكيفية التعامل مع الحرب التي تهدف لفرض الدولة الجديدة على خريطة العالم، ووجه بن غوريون (أول رئيس وزراء للاحتلال) اتهامات عدة لبيغن حينها، أبرزها أنه فاشي ويشبه هتلر بدرجة كبيرة، وهو الاتهام الذي كتبه بعد ذلك في مذكراته.

أراد بن غوريون، تفكيك كل التنظيمات المسلحة بهدف دمجها في جيش واحد يمثل "إسرائيل"، معتبراً أنه لا يجب أن يكون هناك توزيع للسلاح على اليهود ليتحولوا إلى تنظيمات تعمها الفوضى، مؤكداً أن جيش الاحتلال هو فقط المسموح له بامتلاك واستعمال السلاح.

في الظاهر، وافق أعضاء تنظيم الإيتسيل على هذا القرار، وأعلنوا أنهم لن يمتلكوا أي أسلحة خاصة بهم في المستقبل مبلغين بشكل رسمي جيش الاحتلال الجديد عن سفينتهم آلتالينا.

على ضوء ذلك، طلب منهم بن غوريون أن يسلموا كل الأسلحة للجيش اليهودي، لكن بيغن أصر على الاحتفاظ بجزء من هذه الأسلحة، وهنا بدأت شرارة الحرب الأهلية تعلن عن نفسها، إذ اعتبرت "اسرائيل" هذا الأمر تهديداً لها، وتعامل بن غوريون مع هذا الطلب باعتباره تمرداً رسمياً على قرارات حكومة الاحتلال.

"المدفع المقدس"

حين كانت السفينة على شواطئ تل أبيب، صعد عليها بيغن وقرر التمرد، فلم يتسامح بن غوريون مع ذلك واعتبره إعلان حرب، حيث طلب من الجيش وقتها ضرب السفينة.

دعم رغبة بن غوريون أفراد من تنظيم الهاغاناه أيضاً، أبرزهم إسحاق رابين، وبدأ بضرب السفينة. كان الهدف وقتها كسر تنظيم الإيتسيل، وقذ شهد الساحل وقتها حرباً أهلية بين أفراد التنظيمات المختلفة، ثم انطلقت النيران في اتجاه آلتالينا.

بدا الأمر وكأنه فيلم سينمائي هوليوودي بامتياز، خصوصاً حين أصابت قذيفة جيش الاحتلال مخزن السلاح على متن السفينة، واشتعلت النيران بشكل ينذر بكارثة قبل أن يبدأ كل من كان على ظهر آلتالينا القفز إلى المياه بعدما عمّت حالة خوف من أن تنفجر القنابل في السفينة.

تسبب الاقتتال في موت وإصابة العشرات من اليهود، أغلبهم من الإيتسيل، في مقابل القليل من تنظيم الهاغاناه، لكن سرعان ما توقف الأمر بعدما طلب بيغن من رجاله الاستسلام. وبأوامر من بن غوريون حمل المدفع، الذي أطلق النيران على السفينة، اسم "المدفع المقدس".

لم تؤدّ هذه الحرب الأهلية المصغرة، لو جازت تسميتها كذلك، إلى قتل وإصابة العشرات من اليهود فقط، بل كانت من نتائجها أيضاً السيطرة على ما يعرف بقلعة زئيف، والتي كانت المقر الرسمي لتنظيم الإيتسل، في تل أبيب.

وحتى اليوم يوجد في وسط تل أبيب، بجوار حانة على شاطئ البحر تسمى مايك بليس، نصب تذكاري حجري لـ16 رجل يهودي، قتلوا في حادث قصف السفينة.

"حرب أهلية؟.. مستحيل"

من وجهة نظر بيغن حينها، لم يكن إصراره على عدم إكمال المعركة "استسلاماً" بل نبع من رفضه أن يقتل اليهود بعضهم البعض، وكتب في مذكراته بعد ذلك إنه "قد أمر رجال الإيتسيل بعدم الرد على إطلاق النار، صارخاً : حرب أهلية، مستحيل".

في تلك المذكرات عبّر بيغن عن "تألمه من أن يطلق اليهود النار على اليهود، وأهمية منع وقوع حرب أهلية" مضيفاً "لو كانت حدثت حرب أهلية متبادلة في "إسرائيل"، لكانت قد دمرت "إسرائيل".

قصة مؤلمة بالنسبة لـ"إسرائيل"

بالنسبة لمعظم "الإسرائيليين"، تُعدّ قصة السفينة فصلاً مؤلماً في تاريخهم. وهنا يقول شلومو ناكديمون، وهو صحافي "إسرائيلي" متقاعد، "كان الناس غاضبين للغاية".

يروي ناكديمون إنه أحسّ بغضب من جيش الاحتلال وقتها لأنه كان يقتل يهود، مضيفاً أنه شعر مع الكثيرين أن حكومة الاحتلال الجديدة كان يمكن أن تحل نزاعها معهم من دون إطلاق نار، و"من دون أن يقتل اليهود اليهود".

ورأى الصحافي "الإسرائيلي"، الذي كان شاهداً على الحادثة حين وقف يراقب الهيكل المشتعل للسفينة بعينيه في الثانية عشر من عمره مع الكثيرين على الشاطئ، أن "قتل اليهود لبعضهم البعض هو ما يجعل قضية آلتالينا قضية مؤلمة لـ"الإسرائيليين".